خدع «حزب العدالة والتنمية» بإقرار قانون السماح للمحجبات بدخول الجامعة ناخبيه ومؤيديه وبعض العَلْمانيين الذين صوّتوا له، وبعض المحللين السياسيين، وأنا منهم، حين رفع شعارات تقدمية في الانتخابات التشريعية التركية الماضية وانتخابات الرئاسة كذلك.- 1 -
اهتمامنا بقرار البرلمان التركي بالسماح للطالبات التركيات بارتداء الحجاب في الجامعة - رغم أنه قرار محلي وداخلي وصغير - نابع من أن هذا القرار سيكون له مردود سلبي كبير على حراك المرأة العربية في المستقبل القريب والبعيد. فتركيا المسلمة رغم علمانيتها الشديدة، تعود اليوم إلى «عصر الحريم»، متمثلاً بالحجاب الذي أصبح هذه الأيام علامة مميزة للمرأة المسلمة هنا في الشرق وهناك في الغرب كذلك، حتى لو كانت المرأة التي تظهر بالحجاب تخرج بكامل زينتها وأناقتها وملابسها الضيقة، خصوصاً «الجينز». فالمهم هنا هو الحجاب، وحجاب الشعر بالذات، علماً أن آية الحجاب كما يفسرها البعض، لا تحضُّ على تغطية الرأس بقدر ما تحضُّ على تغطية الصدر، وهو مثار فتنة أكثر من الشعر. فالقرآن الكريم، يقول في (سورة النور -31): «وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فَرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ» والجيوب هنا تعني الصدر، وليس الرأس أو الشعر. والصدر هنا يعني منطقة العنق والصدر والثديين. زيادة على ذلك فإن معظم المؤرخين يقولون، إن الحجاب عند العرب كان قبل تاريخ هذه الآية، وإن أصل الحجاب قديم جداً، فقد كان الحجاب في «قانون حمورابي» في بلاد ما بين النهرين، ثم في التوراة، ثم في الإنجيل؛ ثم جاء أخيراً في القرآن الكريم. بمعنى أن الحجاب كان في كل الأديان، وليس في الإسلام فقط «هاشم صالح، معضلة الأصولية الإسلامية، ص98». وبذا يرمز الحجاب للمرأة على أنها متدينة، ولكنه لا يرمز فقط على أنها مسلمة بالتعيين. فيمكن لصاحبة الحجاب أن تكون مسيحية، أو يهودية، أو مسلمة، لاسيما أن الحجاب أصبح هذه الأيام من مظاهر «الموضة» النسائية، وعنصراً من عناصر زيادة جمال وأناقة المرأة. وغدت بعض النساء - من الممثلات والمذيعات في الفضائيات على وجه الخصوص- بالحجاب أجمل مما هُنَّ من دونه، لأنه ركَّز نظر الرجل على وجه المرأة فقط تركيزاً شديداً، بحيث ظهر وجه المرأة وكأنه داخل إطار «الحجاب» جميلا، فزادت فتنة المرأة للرجل بالحجاب، ولم تَزُلْ. وأصبحت دور الأزياء في باريس وروما ونيويورك تتسابق على تقديم تصاميم جديدة لأقمشة الحجاب. ولكن الأصولية الإسلامية في مصر والمغرب العربي ومنطقة الخليج وفي غزة وغيرها اتخذت من الحجاب... قطعة القماش هذه، رمزاً لهوية المرأة المسلمة فقط، خصوصاً في مجتمع كالمجتمع العربي المغلق الآن، والذي تُكرَّسُ فيه المرأة للعلف والخَلَف، ولا توحي المرأة للعربي بشيء غير الجنس، ولا شيء غير الجنس.
- 2 -
فكيف سيكون هذا القرار مضراً بالمصلحة الوطنية التركية وبعلاقة تركيا بالاتحاد الأوروبي؟
فعلى المستوى الوطني التركي سيكون ضرر هذا القرار كبيراً للأسباب التالية:
1 - أن هذا القرار يأتي في عهد «حزب العدالة والتنمية»، وهو حزب ديني-سياسي، يسعى كما سعت من قبل أحزاب عَلْمانية تركية إلى الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي وذلك منذ سنوات طويلة. ولم تفلح تركيا في الانضمام إلى هذا الاتحاد حتى الآن لملاحظات كثيرة، ومعظمها مستقى من الشريعة الإسلامية، في ما يتعلق بحقوق الآخر من غير الأتراك، وفي ما يتعلق بتطبيق الحدود الإسلامية. ويأتي اليوم إقرار مشروع السماح للطالبات المحجبات بدخول الجامعات لكي يزيد «الطين بلّ» كما يقولون.
2- يأتي هذا القرار بالنسبة لتركيا بعد 85 سنة من قيام ثورة كمال أتاتورك العَلْمانية 1923 وسقوط الخلافة الإسلامية 1924، والتي أُعلن فيها أن تركيا بلد أوروبي أكثر منه شرقياً. وخلع الأتراك الطربوش العثماني ولبسوا القبعة الغربية، وحوّل أتاتورك بعض المساجد إلى متاحف، وألغى منصب شيخ الإسلام، ومنع الحج لعدة سنوات، وألغى اللغة العربية كلغة رسمية في دواوين الحكومة... الخ. وتحولت بعد ذلك الدولة التركية إلى دولة عَلْمانية «على الطراز التركي» تفصل بين الدين والسياسة، ولكنها لا تنكر الدين ولا تجحده. وكانت عَلْمانية تركيا «الأتاتوركية» المثال الجيد والمأمول لليبراليين العرب قديمهم وجديدهم، كما كانت المكروه والمستعاذ منه من قبل الأحزاب الدينية العربية كالإخوان المسلمين، و«حزب التحرير»، و«حركة النهضة» التونسية وغيرهم. كما كانت من الكبائر التي ارتكبها أتاتورك، ومن معه، ومن تبعه، في رأي كثير من رجال الدين العرب والأتراك والفرس، على السواء. وهذا يعني أن «حزب العدالة والتنمية» الحاكم قد انقضَّ على ثورة أتاتورك، ونقَضَ مبادئها، وعاد بتركيا إلى «عصر الحريم» الكلاسيكي «والحجاب رمز له، ودلالة، ومقدمة» بكل تقاليده وشعائره ومورثاته، وواجه رأساً لرأس head to head، المؤسسة العسكرية التركية، التي تُعتبر الحامية للعَلْمانية، ولتراث كمال أتاتورك، كما واجه الأحزاب التركية العَلْمانية الأخرى التي حذرت تحذيراً شديداً في السابق من وصول حزب «العدالة والتنمية» إلى السلطة، وبأنه عاجلاً أو آجلاً، سوف يطيح بالعَلْمانية التركية، من دون أي اكتراث لعواقب ذلك، مما أغضب جزءاً كبيراً من الشارع التركي. فقالت صحيفة «جمهورية» المؤيدة للعَلْمانية: «إن هذا القرار ضربةٌ للسلم الاجتماعي». ونددت في مقال افتتاحي لرئيس تحريرها مصطفى بلباي قوله: «إن هذا القرار بروفة عامة للتغييرات الأصولية التي يريد حزب العدالة والتنمية تنفيذها». كذلك كان الخبير السياسي «جنكيز أقدار» في جامعة «بهجة شاهير» أكثر تشاؤماً، حيث رأى في قرار السماح بالحجاب إشارة إلى عودة السلطة الاستبدادية بصبغة إسلامية. وقال «يمكننا اعتبار أن الدستور الجديد أصبح في سلة المهملات، وأن الحريات فيما عدا حرية ارتداء الحجاب لا تعني حزب العدالة والتنمية، وحليفه الفاشي الجديد حزب الحركة القومية».
3 - خدع «حزب العدالة والتنمية» بإقرار قانون السماح للمحجبات بدخول الجامعة ناخبيه ومؤيديه وبعض العَلْمانيين الذين صوّتوا له، وبعض المحللين السياسيين، وأنا منهم، حين رفع شعارات تقدمية في الانتخابات التشريعية التركية الماضية وانتخابات الرئاسة كذلك. فقد قلنا بمناسبة نجاحه في الانتخابات التشريعية التركية الأخيرة: «حزب العدالة والتنمية حزب أتاتوركي في الصميم. وهو بالتالي حزب عَلْماني قُح. ومشاريعه وخطاباته ومبادئه جميعها تشير إلى أنه حزب عَلْماني، وإن كانت هذه العَلْمانية لـحزب التنمية والعدالة كحبة اللوز المغطاة بطبقة رقيقة من السكر الإسلامي المعقود، لكي يستطيبه الشارع التركي المتديّن، ولكي لا تنفر منه الأحزاب الدينية السياسية العربية. وإن كان هذا النوع من الحلوى السياسية لا تستطيبه المؤسسة العسكرية التركية، بل هي ترفضه. وقد تبين ذلك من عدم رضاهم عن فوز حزب العدالة والتنمية، وعدم رضاهم عن فوز عبدالله غول بمنصب الرئاسة التركية، ورفض قائد الجيش وكبار ضباطهم حضور حفل تنصيب الرئيس الجديد أو مصافحته. فالمؤسسة العسكرية التركية حامية حمى العَلْمانية، غير راضية عن عَلْمانية حزب العدالة والتنمية، وهي تريد العَلْمانية السياسية بالذات، مُصفَّاة خالية من أي قشرة دينية أو مظهر ديني حتى ولو كانت قطعة القماش «الحجاب» التي تلبسها خير النساء، زوجة غول، والذي تكمن فيها الأنثوية الإسلاموية هذه الأيام. («الجريدة»، 12/9/2007).
4 - من المعروف أن الليبراليين الأتراك يطالبون بتعديل الدستور الحالي الموروث من انقلاب 1980، والذي تعتبر العديد من بنوده استبدادية الطابع، كما يطالب هؤلاء الليبراليون بتعديل المادة 301 من قانون العقوبات التي تعاقب على «إهانة الهوية التركية» والتي أُدين بها العديد من المثقفين المعروفين. وهذا أيضاً من مطالب الاتحاد الأوروبي، وشروطه لقبول تركيا عضواً في الاتحاد الأوروبي.
* كاتب أردني