حاسة الوشاية
من منّا لا يحلم بالكتابة؟ من منّا لا يحلم بالكلمات؟
كلنا نكتب: العالم كله يكتب: ونحن سائرون أو نائمون، عندما نحلم نكتب أحلامنا... حواراتنا الداخلية... مونولوغاتنا كتابة في ذاتها. أرضها الواسعة ومنابعها السرية تكمن في صمتها وغموضها المتأرجحين بين الإباحة والإفاضة، بين السرية والكتمان والجهر بالكلام، ما بينهما تقع الكتابة. هذه الكتابة الساحرة الأخاذة بمعنى أن تأخذك، تأسرك مستولية على لاوعيك بعيداً عن الاستئذان. كتابة تحملنا منا إليها بشكل كامل تبقي لنا الحتات وما يتيسر لإدارة شؤوننا الداخلية وحياتنا الخاصة. نحن المأخوذون بالغولية وبندّاهة سرية تخاتلنا بين أن نكون أو لا نكون، أن نقبض على جوهرها، طلسم المعنى الغائب في العتم، العصي على الوضوح، الهارب في عتمتنا الغامضة، الغائص في دهاليزنا الملتوية البعيدة عن الفهم والاستحواذ المطمورة في غياهب ماض ما عشناه. ما الهارب منا القابض علينا في آن واحد؟ كيف نتمكن من هذا المتمكن منا؟ كيف نأتي به لأجل أن يجيء بنا؟ ليمن علينا بالهدوء والراحة. ليمنحنا كفارة لذنب غير مفهوم اكتمالا لنفس مشطورة وهدنة قبل اختراق آخر. إنها الكتابة العذبة المعذبة العاصفة العارمة المعربدة، ترياق الروح والعقل والجسد والعاطفة. الساطية الآمرة الناهية. من دونها كيف نكون؟ كيف نعبر عن المخبوء فينا؟ عن عواصفنا وغلياننا، اكتظاظنا بنا، احتشادنا بالمتعدد والملتبس منا؟ من غيرها يقودنا إلى حافة الوشاية؟ إلى الفتنة وفك أسر الكلام. إلى مباهج الكشف والبوح والفضفضة. المشاركة مع الآخر، فتح قنوات للتواصل والحوار. نوافذ خارج التوحد والصمت. من يهدينا الطريق؟ من يواصل بيننا إلاها؟ ثمة كتابة وكتاب جسر معرفة بهما اهتدينا إلى قارئنا. قارئ أحب ما كتبناه. ما فاض منا. ما امتحناه من رعف العصب، من ندف الذاكرة. من اعصار عارم وغليان من دون مكبح. الكتابة امتعت السادر والهاذي اللاهب في روايات ونصوص لامست مشاعر قارئ مجهول على الضفة الأخرى. ومن المطارح البعيدة جاءت الرسائل تحمل الحب والإعجاب وانهمار الفرح والاهتداء إلى طريق يجمعنا ويوحد ما بيننا وبين الكلمة العابرة في جناح كتاب. استوطنت مساحة لراحة المحارب ومحطة لاستعذاب الحلم وضرورة لملامسة العقل والروح ومنادمة القلب. هي محطة ودرب ما بيني وبينكم.