فرصة أخرى لأوروبا في البلقان
في العام 199، وفي مواجهة تفكك يوغوسلافيا، ألقى رئيس مجلس الاتحاد الأوروبي «جاك بوس» بيانه الشهير، الذي بات موضعاً للسخرية الآن، والذي قال فيه: «هذه ساعة أوروبا... وليست ساعة الأميركيين». إن ما تعلمه الاتحاد الأوروبي من الكوارث، التي تعرضت لها دول البلقان خلال الأعوام الأربعة التالية تحت إدارته، أصبح الآن على محك الاختبار بفضل نقطة تحول رئيسية أخرى، وأزمة سياسية جديدة متى وكيف، تصبح كوسوفو دولة مستقلة. ومرة أخرى، قد يكون الدور الذي ستضطلع به أوروبا في هذه الأزمة حاسماً. قد لا يترتب على الفصل في قضية كوسوفو تفاقم احتمالات تجدد الصراع على نطاق واسع، إلا أنه يطرح عدداً من التساؤلات الخطيرة في ما يتصل بعلاقات أوروبا بروسيا والولايات المتحدة، وأيضاً في ما يتصل بالاستقرار في كل أنحاء البلقان. وبينما تشكل نتيجة القرار بشأن كوسوفو أهمية كبرى بالنسبة للولايات المتحدة، فمن الواضح أن بلدان الاتحاد الأوروبي لديها مصالح على قدر عظيم من الأهمية في المنطقة، وربما يحملها هذا على الاضطلاع بمسؤوليتها القيادية على النحو اللائق هذه المرة.
من المقرر أن يناقش مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، طيلة الشهرين المقبلين على الأقل، خطة أولية بشأن مستقبل كوسوفو، وهي الخطة التي تم التوصل إليها بعد جُهد جهيد طيلة عام كامل من «المفاوضات» بين الحكومتين في بلغراد وبرشتينا، التي أدارها مبعوث الأمم المتحدة والرئيس الفنلندي السابق مارتي اهتيساري. وتتحدث الخطة الأولية عن منح كوسوفو «الاستقلال الخاضع للإشراف»، وتوفير الحماية القصوى للصرب والأقليات الأخرى، ومنح الاتحاد الأوروبي دوراً إشرافياً في كل هذا. ويتلخص اقتراح اهتيساري في الإقرار بعدم إمكان التوصل إلى اتفاق بين الأطراف المعنية، وأنه لا يوجد بديل عن استقلال كوسوفو. حشدت الولايات المتحدة وبلدان الاتحاد الأوروبي مجتمعة الجهود في دعم اقتراح اهتيساري. إلا أن بعض بلدان الاتحاد الأوروبي إسبانيا، واليونان، وإيطاليا، وقبرص، ورومانيا، وسلوفاكيا، والنمسا أبدت شكوكها أو عدم ارتياحها إزاء استقلال كوسوفو، الأمر الذي يطرح أسئلة عميقة بشأن صدق عزيمة الاتحاد الأوروبي. في الوقت نفسه، يشن رئيس الوزراء الصربي فوجيسلاف كوستونيكا حملة دبلوماسية شديدة ومؤثرة لإدانة اهتيساري واقتراحه. ولقد أدت هذه الجهود إلى تعزيز موقف العديد من الأطراف في أوروبا وأماكن أخرى، ممن سجلوا شكوكهم واعتراضاتهم على انتهاك سيادة أراضي دولة مستقلة، أو الذين ما زالوا يزعمون إمكان التوصل إلى التسوية من خلال المفاوضات. وما يثير القدر الأعظم من القلق والانزعاج، هو التشكك حيال قدرة أوروبا المهزوزة على التصدي لروسيا، التي تعتمد عليها صربيا في مساعدتها في الاحتفاظ بسيادتها على كوسوفو حتى الآن، أكد الكرملين بصورة واضحة أنه لن يقبل بغير التسوية التي يوافق عليها الطرفان، الأمر الذي يشكل تعزيزاً لموقف صربيا في الواقع العملي للأمر. وبينما تلمح روسيا إلى احتمال استخدامها لحق النقض، فإن إستراتيجيتها الحالية تتلخص في تأخير تصويت مجلس الأمن على هذه القضية بقدر الإمكان، وذلك من خلال إرسال لجنة تقصي حقائق جديدة إلى كوسوفو، وهو ما سيعقبه على الأرجح تجدد الإصرار على بذل جهود تفاوضية جديدة للتوصل إلى تسوية. وبطبيعة الحال، ترحب صربيا بالتأخير، على أمل أن يؤدي هذا إلى تحريض مواطني كوسوفو المحبطين على العنف، وبالتالي زيادة معارضة أوروبا لاستقلال كوسوفو وتعزيز إصرار صربيا على الحفاظ على الوضع الراهن، أو تقسيم كوسوفو كملجأ أخير. من الواضح أن بعض الدول الأوروبية ترى أنها قادرة على الجمع بين الإبقاء على إجماع الاتحاد الأوروبي على دعم خطة اهتيساري ، وبين التسامح مع التلكؤ الروسي على أمل أن يؤدي التأخير إلى الخروج بخطة أفضل عن طريق المزيد من المفاوضات، ولكن بتبني مثل هذا الموقف، فإن هذه الدول تخذل مبعوثها الخاص، بل وقد يؤدي موقفها هذا إلى التحريض على العنف الذي تدعي مقتها له. وليس في التاريخ أيضاً ما يعزينا. ذلك أن تناول الاتحاد الأوروبي لعلاقاته مع صربيا في الماضي لم يسفر إلا عن تشجيع المزيد من العناد. فبدلاً من أن يعلن الاتحاد الأوروبي بوضوح وبشكل متكرر أن استقلال كوسوفو يشكل شرطاً ضرورياً لعضوية الاتحاد الأوروبي. وهو الأمر الذي يشكل أهمية كبرى في ما يتصل بتحديث صربيا وجلب الاستقرار إلى منطقة البلقان، راح بعض قادة الاتحاد الأوروبي، مثل خافيير سولانا، يثنون على كوستونيكا ويمتدحونه باعتباره زعيماً ديموقراطياً عظيماً، كما مارس هؤلاء الزعماء ضغوطاً متواصلة وغير ناجحة على قادة الجبل الأسود لحملهم على الاستمرار في اتحاد عاجز مع صربيا، وتغاضوا عن الاستفتاء المثير للشكوك،الذي أجراه كوستونيكا في عام 2006 حول تبني دستور جديد يعتبر كوسوفو جزءاً من صربيا، وتسببوا بذلك في إضعاف النداءات، التي تطالب صربيا بالتعاون مع المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي. إن تنفيذ اقتراح اهتيساري سوف يعتمد على تضامن الاتحاد الأوروبي ومثابرته، فضلاً عن الدعم الأميركي القوي، من أجل التعامل بنجاح مع تقلب المناقشات الدائرة في الأمم المتحدة، والتأثير على الأصوات المتشككة من قِـبَل الدول الأعضاء غير دائمة العضوية في مجلس الأمن، مثل إندونيسيا وجنوب أفريقيا، وإقناع روسيا بالامتناع عن التصويت بدلاً من استخدام حق النقض. يعتقد الكثير من المحللين أن روسيا لن تجازف بعلاقاتها مع أوروبا والولايات المتحدة، وأنها ستكتفي بالامتناع عن التصويت إذا ما اتخذت الدول الغربية موقفاً ثابتاً. ولكن يبدو أن روسيا تمر بحالة مزاجية غير عادية الآن، ولديها العديد من القضايا المعلقة الأخرى، التي تتسبب في احتكاكها بالولايات المتحدة وأوروبا. إن روسيا تحت حكم بوتن ليست هي نفس روسيا، التي كانت تحت حكم يلتسين، حين كان الغرب يستطيع ببساطة أن يُنحي مخاوف روسيا جانباً. والحقيقة أن أوروبا أصبحت عرضة للخطر على أكثر من جبهة، وبصورة خاصة في ما يتصل باستقلالها عن الطاقة الروسية، بينما أدت الإدارة الرئاسية الضعيفة في الولايات المتحدة إلى إضعاف النفوذ الأميركي على روسيا. إذا استخدمت روسيا حق النقض ضد «خطة اهتيساري» فلسوف تتصدع الواجهة الزائفة، التي تصور الاتحاد الأوروبي ككيان واحد متماسك، وذلك مع رفض العديد من الدول الأوروبية الانضمام إلى الولايات المتحدة في الاعتراف بكوسوفو المستقلة من دون مباركة من الأمم المتحدة، أو حتى إرسال بعثة إشرافية إلى هناك، وهذا سوف يشكل بداية عصر جديد من الاضطرابات في البلقان،إذ لن تكون كوسوفو وحدها عرضة للخطر. وفي ظل هذه الحالة من الارتباك، التي يمر بها الاتحاد الأوروبي والتحالف الغربي، فقد تسقط المنطقة بالكامل ضحية للمزيد من السياسات الروسية الرديئة. كبير زملاء لدى «مؤسسة القرن» والرئيس السابق لمؤسسة «كارنيجي» للسلام الدوليخاص للجريدة – بروجيكت سينديكيت