في قضية المديونيات هناك مساحة مشتركة من المسؤولية يجب أن تتحملها ثلاث جهات بغض النظر عن حجمها: الشعب، وخصوصا فئة المقترضين؛ والبنوك التجارية التي تتحمل مسؤولية الجشع، واستغلال ضعف المواطن؛ والحكومة التي تتحمل بدورها مسؤولية ضعف الرقابة على البنوك، وتجاهل التكيف مع تقلبات الاقتصاد بشقيه الوطني والعالمي.وأخيراً أقرت الحكومة والنواب المؤيدون لها في قضية المديونيات بوجود مشكلة حقيقية، بعدما استنزف هذا الموضوع الكثير من الوقت والجهد على مدى خمس سنوات من الإنكار والتسفيه، وإذا كان من فضل للإقرار بأهمية هذه المأساة الإنسانية والاقتصادية، فإنه يعود إلى مقام صاحب السمو أمير البلاد الذي حسم بحكمته وموقعه الأبوي ضرورة مواجهة المشكلة، وطرح الحلول العملية لعلاجها بدلاً من المكابرة والتجاهل.
فقضية القروض، أولاً وأخيراً، واقع فرض نفسه بكل ما يحمل من جوانب فنية ومالية وأبعاد اجتماعية وسياسية كانت ولا تزال تتطلب نقاشاً موضعياً بلغة الأرقام ومن منظور متكامل، ولكن وحتى نهاية جلسة يوم الثلاثاء الماضي، وفي أوج النقاش البرلماني، كان الإصرار الحكومي والحليف النيابي لها يتركز على اتهام الرأي الآخر بدغدغة الشارع محاولة التضليل الإعلامي بأن الهدف من المقترح الأخير، هو إسقاط المديونية عن المواطنين وبقيمة ضخمة تجاوز 4.5 مليارات دينار، وهو بالتأكيد رقم مخيف وتقشعر منه الأبدان، ولكنه منافٍ للحقيقة تماماً، حيث كان لب الاقتراح إعادة جدولة تلك الديون وتحصيلها بالكامل!
ولم تمعن اللجنة المالية حتى النظر في بعض البدائل، التي كانت مقدمة من بعض الزملاء النواب، ومن بينها اقتراحات شبيهة بمبادرة صاحب السمو الأمير بغرض إفشال قضية المديونيات، وإغلاق أبوابها إلى الأبد في حالة سقوط المشروع النيابي في الجلسة الماضية.
وفي كل الأحوال، فإن أزمة القروض تؤكد حقيقة واقعية لا يمكن القفز عليها أو إغفالها أو محاولة استخدام السلاح الإعلامي للترويج لها أو عليها، ويتمثل ذلك في الفرز الطبقي والمناطقي لمعظم النواب وقواعدهم الانتخابية، فإذا كان أنصار معالجة مشكلة المديونيات تحت ضغط مناطقهم الانتخابية الأكثر تضرراً، وممن يشكلون الاغلبية العظمى من الطبقة المتوسطة والفقيرة، فليس من العيب سياسياً أن يتبنوا أفكاراً وحلولاً للتخفيف من معاناتهم، وبنفس هذا القدر من المراعاة السياسية والضغط الانتخابي اتخذ معظم النواب الرافضين لاقتراحات معالجة المديونيات مواقفهم وأطروحاتهم بما يتناسب مع الذوق العام والفكر السياسي والاجتماعي السائد في دوائرهم الانتخابية، وليس في ذلك عيب أيضاً، وتعتبر مثل هذه المواقف المتضادة نتيجة طبيعة في أي مجتمع، بل إن هذا هو ما يسود الفكر السياسي والدعاية الانتخابية في جميع الديموقراطيات عبر العالم شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً.
وإذا لم تكن هناك حقيقة كاملة ولا حجة دافعة ومنفردة لأي طرف في قضية المديونيات، فإن هناك مساحة مشتركة من المسؤولية يجب أن تتحملها ثلاث جهات بغض النظر عن حجمها: فالشعب الكويتي، وخصوصا شريحة المقترضين، يتحمل تبعات النهم الاستهلاكي، والإفراط في التباهي الاجتماعي على حساب «الجيب»؛ والبنوك التجارية تتحمل مسؤولية الجشع واستغلال ضعف المواطن، فهل يعقل أن ترتكب بضعة مصارف أكثر من 30 ألف مخالفة في أقل من ثلاث سنوات، وتتحايل على القانون وضوابط البنك المركزي بسبب ارتفاع معدلات الفائدة، وأن تتسبب في معاناة عشرات الآلاف من الأسر الكويتية؟؛ وتتحمل الحكومة بدورها مسؤولية ضعف الرقابة على البنوك، وتجاهل التكيف مع تقلبات الاقتصاد بشقيه الوطني والعالمي وأيضاً مسؤولية الإهمال في التحرك لمواجهة المشاكل حتى تصل إلى حافة الهاوية.
ونتمنى دائماً أن نستفيد من الأزمات ونستشرف من خلالها آفاق المستقبل لعل وعسى ألا نتجنب الوقوع في نفس الحفر الشائكة فحسب، بل تكون محطات للمبادرة في تحسين الأوضاع المعيشية وتبني البرامج التنموية، ولو كانت مثل هذه الطموحات بعيدة عن واقعنا وعن إرادة الكثيرين في مختلف المواقع والمسؤوليات!