ادخل إلى هذا العالم السحري، وابحث عن أحد تابوهاتك الثلاثة: الدين، والسياسة، والجنس، واغرق وسط ملايين من «نقرات» الحقائق، والأوهام، والأكاذيب، وما لم يعرف له اسم بعد. أو ضع اسم ملكك أو رئيسك بين مزدوجين، واقرأ له وعنه، تصريحات، وتحليلات، وسير، وفضائح. حتى صديق طفولتك، يمكنك أن تصل إليه، فقط ضع اسمه أو اسم أي من أصدقائكما المشتركين على محرك البحث، الذي يمكن أن يقودك إلى بريده، وربما رقم هاتفه.
شاهد «الموديل» الجديد من نفس طراز سيارتك، أو احصل على رقم هاتف أقرب فرع «بيتزا هت»، أو ضع اسم فيروز، لتسمع فوراً أحلى أغنياتها. حتى هذا الفيلم الذي تحب، يمكنك أن تعرف سنة إنتاجه، واسم مخرجه، بل يمكنك أن تشاهده إن رغبت. ضع اسم مذهبك الديني، لتقرأ وتعرف ما لم تكن ستعرفه أبداً، كلاماً وصوراً ورسوماً، بعضها أقوال موزونة، والآخر لغو وما هو أكثر.أين أنت الآن؟ أنت حيث يدار عالمنا اليوم، وتُزرع به المخاطر والأفخاخ، أو تُخلق به الفرص والمكاسب؛ أنت في الإنترنت... «بُقلنا... نُقلنا... شارتنا التي يعرفنا بها أصحابنا، بل وأعداؤنا».لو كان أمبيدوكل حياً لغير مقولته التاريخية: «العالم مكون من عناصر أربعة: هواء، وماء، وتراب، ونار»، فقد كان حرياً به أن يضيف العنصر الخامس: «وإنترنت»؛ حيث يمكنك أن تسمع تلاوة للقرآن الكريم فريدة، وأن تعرف قصة «الزير سالم» كما رويت أول مرة، وأن تراجع حسابك البنكي، وتشتري كتباً، وبيتاً، وفطائر، وأن تتواصل مع أبنائك الذين يمضون عطلة الصيف خارج البلد وكأنك معهم... بل أكثر، وأن توقع على عريضة تناهض العولمة، وأن تنصب أو تسرق، أو تعلم «مجاهدين» كيف يعدون القنابل لمواجهة «فسطاط الشر»، أو تشاهد محاسن فتيات منحرفات فاتنات من هذا الفسطاط نفسه.قيل إن في حياتنا ثلاث سلطات: التنفيذية، والتشريعية، والقضائية، وأن تلك السلطات أحياناً تعمل ضد مصالحنا، وكثيراً ما تُخترق. ثم فجأة قالوا إن «الصحافة سلطة رابعة، موضوعة بتصرف المواطنين، بفعل الحس المدني للإعلام، وشجاعة الصحافيين، من أجل الانتقاد والرفض ومجابهة أخطاء السلطات الأخرى... أليست صوت من لا صوت له؟».لكن أورسون ويلز حقق شريطه الأسطوري «المواطن كاين»، في العام 1940، مهاجماً فيه «السلطة المفرطة للصحافة»، وهو الفيلم الذي انتخب لاحقاً «أفضل فيلم في تاريخ السينما الأميركية»، فماذا يا ترى كان سيفعل اليوم أمام سلطة أكثر سطوة ونفوذاً وتغلغلاً في مصير العالم.لم يكد الوضع يستتب بعد للصحافة كـ «سلطة رابعة»، فإذا بسلطة جديدة تبزغ، تبدو أكثر قسوة وشراسة واحتواء، فهل ستقنع بالموقع الخامس في سلم النفوذ العالمي؛ أم ستنحو نحو الافتئات على غيرها من السلطات؟كثيرون استبقوا الأحداث، وراحوا يبحثون عن سلطة خامسة قبل الآوان، فذهب بعضهم إلى أن تلك السلطة تتمثل في مؤسسات المجتمع المدني، حيث ينظم الناس أنفسهم طواعية، غير هادفين إلى الربح، لتحسين شروط الحياة، ومعالجة اعتوارات السلطات الأربع، ومساعدة الفئات الأضعف والأكثر تهميشاً، والعمل من أجل المستقبل، بأداء ورؤية وتأثير مستدام، لا يهدف إلى إنقاذ اليوم في مقابل التضحية بالغد، ولكن إلى تحسين حياتنا في الحاضر والمستقبل في آن.آخرون ذهبوا إلى أن «مؤسسات الدقة العامة»، التي تُنشأ وتُدار من قبل الراشدين من الناس، ولمصلحة مجموع الناس، لتراقب أداء السلطات الأخرى، وتنصف من جارت عليه أو تجاوزته وطردته خارج نظامها، هي السلطة الخامسة. فيما رأى كثيرون أن السلطة الخامسة تتمثل في «النظام الاقتصادي»؛ هذا الأخطبوط العالمي، الذي «امتد كالسرطان في دم فقراء العالم ومهمشيه»، ورأس حربته الشركات المتعددة الجنسيات، والمؤسسات الأممية الثلاث: صندوق النقد والبنك الدوليان ومنظمة التجارة العالمية، وآلياتها «التي تستهدف توسيع الفقر لمصلحة تخصيص الغنى وتضخيمه». حتى إن بعضهم ذهب إلى اجتراح سلطته الخامسة التي لم تعرف إلا في مجتمعه المحلي، كالويسكي في اسكتلندا، والقات في اليمن، والديوانية في الكويت.لكن ما يجعل الإنترنت سلطة خامسة بجدارة وتفرد، ومن دون منازع، أنها ليست وسيلة إعلام تخوض المنافسة وتبحث عن الحظوظ، ولا إحدى منظمات المجتمع المدني تواجه ضعف التمويل وقيود الحكومة وعزوف الناس، ولا حكومة يمكن أن تسقط، أو قضاءً يمكن اختراقه، أو برلماناً يسهل حله، لكنها وسيط وحاضن وملاذ ومُعبر عن كل هؤلاء، ومكمن خطر وعداء يجب الاحتراز منه، ومنجم فرص ومبادرات يجب الحرص عليه في آن.الإنترنت اليوم هي وسيط اجتماعي عالمي، له سمة الذيوع والاستدامة؛ حيث تُخبأ المعلومات وتُلون وتفضح، وتُمارس الجريمة والعبادة والجنس، وتُكرس السيطرة في أعتى صورها، وتفرغ من مضمونها أيضاً، ويُدار الاقتصاد والسياسة، وتُخاض الحروب بأنواعها، وتنتعش الحياة الاجتماعية أو تُمتهن وتُستغل أسوأ استغلال.الإنترنت اليوم سلطة خامسة، لكننا لا نعرف بالضبط في أي يد هي، وكيف يمكننا إيقافها أو تهذيبها إن هي جارت علينا وهددت مصيرنا؟ أحسب أننا لم نعرف الإنترنت كما يجب بعد، وأننا كثيراً ما نعبث بها... وأنها تغرينا لنفعل ذلك.* كاتب مصري
مقالات
السلطة الخامسة
25-11-2007