المشروع الصهيوني أحلَّ- على ما هو معلوم إلى درجة الابتذال- شعباً يهودياً مكان شعب فلسطيني، على أرض فلسطين، وأحل الشعب الفلسطيني محل الشعب اليهودي في موقع الضحية. لم يشهد التاريخ ربما تبادلاً للمواقع، قسراً وبالقوة الغاشمة، على هذا القدر من الصرامة الرياضية، إن جازت العبارة: ما خسره أحد طرفي هذه المعادلة الجهنمية هو تماماً وتحديداً ما ربحه الطرف المقابل.لو اجترأ مجترئ، على نحو ما فعل نائب وزير الدفاع الإسرائيلي قبل أيام، على وصف ما تقترفه الدولة العبرية في حق قطاع غزة وسكانه بـ»المحرقة» (شواه)، لعدّ كلامه، إن كان عربياً، من معهود خطابة العرب ومن مألوف شططها، أو لعد من الآيات الجلية والمشينة لمعاداة السامية، قولا لا يرمي فقط إلى النيل من فرادة المحرقة التي ارتكبها النازيون، بل، إمعانا في الشين، إلى نسبة إتيان ما يماثلها إلى ضحاياها من يهود أواسط القرن الماضي في أوروبا وإلى ذريتهم، على اعتبار أن المحرقة، وهي ما هي جرماً وفظاعة، لا تنحصر في جيل من أجيالهم أو في فئة منهم ولا تتوقف عند حقبة من مسار معاناتهم المديدة، بل هي جريمة مسترسلة، راهنة أبداً، لا تني تنال من اليهود في كل لحظة، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، على ما استقر في الأذهان المعاصرة والحديثة أقنوماً...
لن نخوض في جدل حول الأمر هذا، ولن ننحطّ إلى إنكار حصول المحرقة. اعتبارات أخلاقية تحول دون ذلك من ناحية، وأخرى عملية من وجه آخر، إذ لا نرى في تبرئة النازيين من إبادة اليهود أمراً مجدياً في نزع الشرعية عن الدولة العبرية وعن وجودها، ولا نراه فاعلاً في إدانة أفعالها في حق الفلسطينيين، بل ربما توجب تحرير النقاش حول المحرقة من ذلك السجال حول تاريخيتها، إثباتاً لحصولها أو إنكاراً، لأن المقاربة تلك تنحطّ إلى سوية المماحكة، وتنحو منحى العقم تالياً، ونقله (النقاش) إلى صعيد آخر، أكثر جدوى لأنه أكثر التصاقاً بالحقيقة وبوقائعها، من خلال إدراج الفلسطينيين في تاريخ المحرقة بوصفهم، أيضاً، من ضحاياها، بل إنهم، في المحصّلة الأخيرة وكمآل أقصى، وبالنظر إلى التبعات التاريخية للجرم النازي وإن اعتبرنا قيام دولة إسرائيل على النحو الذي تحقق نتاجاً للمحرقة، ضحاياها الحصريون، ما يزيد من فداحة الظلم الذي حاق بهم.
إذ استوت المحرقة، بقوة الأشياء، تاريخاً للفلسطينيين بقدر ما هي تاريخ لليهود، وأنكى ما في الأمر أن التاريخ ذاك بات ماضياً بالنسبة إلى هؤلاء، تقام له النّصب وشعائر الاستذكار، في حين أنه بالنسبة إلى أولئك حاضر مُسترسل مستَأْنَف، بل وأفق مستقبلي، أو ذلك، على الأقل، ما تريده الدولة العبرية. ولعلنا نضع الإصبع ها هنا على إحدى أخص خاصيات المأساة الفلسطينية وإحدى أخص خاصيات المشروع الصهيوني. فهذا الأخير لم يقم فقط على استبدال شعب بشعب، بل على استبدال مآل بمآل، أو شرط وجود بشرط وجود. أي أن المشروع الصهيوني أحل، على ما هو معلوم إلى درجة الابتذال، شعباً يهودياً مكان شعب فلسطيني، على أرض فلسطين، وأحل الشعب الفلسطيني محل الشعب اليهودي في موقع الضحية. لم يشهد التاريخ ربما تبادلاً للمواقع، قسراً وبالقوة الغاشمة، على هذا القدر من الصرامة الرياضية، إن جازت العبارة: ما خسره أحد طرفي هذه المعادلة الجهنمية هو تماماً وتحديداً ما ربحه الطرف المقابل. فالفلسطينيون لم يُجتثوا من وطنهم ليُحالوا إلى اللامكان أو إلى مجرد الشتات أو إلى الفناء، بل ليشغلوا موقع الضحية الذي كان لليهود طوال تاريخهم (الأوروبي في المقام الأول).
ذلك أنه كان للمشروع الصهيوني، على ما يبدو، هدفان متلازمان لا ينفصلان: واحد معلن، هو المتعلق بإنشاء وطن قومي لليهود، وواحد غير معلن، هو الثأر من ماضي الاضطهاد اليهودي، وما كان يمكن بلوغ الهدفين إلا على حساب الشعب الفلسطيني، لذلك يتعذر على الإسرائيليين ولوج باب التسوية، لأن هذه الأخيرة، إذ تقوم حتماً على قسمة الأرض، وإن قسمة ضيزى، تفضي إلى إخراج الفلسطينيين وعتقهم من موقع الضحية، وإن على نحو نسبي، فتُبقي ذلك الموقع شاغراً، فراغاً تتوجسه إسرائيل فلا تطمئن إلا إذا ما سهرت على عدم شغوره بنفسها، كما هي فاعلة هذه الأيام في غزة ومنذ ستين سنة.
وقد كانت المحرقة التي ارتكبها النازيون في الحرب العالمية الثانية، هي أداة عملية الاستبدال تلك، فإذا صح أن المحرقة هي التي سوغت قيام الدولة العبرية، فإن التسويغ ذاك لم يتم إلا من خلال التحلل من التبعات المأساوية للمحرقة على كاهل الفلسطينيين، أي من خلال إحلال هؤلاء في موقع الضحية، أي تحويلهم إلى ضحيتها الحصرية، ما دامت «المسألة اليهودية» قد حُلّت على حسابهم.
وربما كان التصريح الذي أدلى به نائب وزير الدفاع الإسرائيلي، الذي توعد الفلسطينيين، في حمأة الهجمة الشرسة ضد قطاع غزة، بـ«محرقة»، مستخدماً عبارة «شواه»، اعترافا، غير إرادي ربما، بليغاً بعملية الاستبدال تلك (إحلال الفلسطينيين بديلاً لليهود في موقع الضحية وفداء لهم، كبعد تأسيسي في المشروع الصهيوني). صحيح أن أوساط الدولة العبرية قد حاولت احتواء ذلك التصريح، بالقول إن عبارة «شواه» تعني، معجمياً، «الكارثة» وأن ذلك ما قصده نائب الوزير المذكور، لكن المحاولة تلك لا تقنع، إذ من المعلوم البديهي أن المعنى الإصطلاحي لكلمة «شواه»، التي أضحت اسم علَم للمحرقة التي اقترفها النازيون، غلب على معناها المعجمي وطمسه...
ما الجدوى، والحالة هذه، من إنكار المحرقة، ما دام لم يبق لها من ضحايا راهنين، بالمعنى الذي سبق تبيانه، غير الفلسطينيين؟
* كاتب تونسي