التقدم والتأخر
نحن العرب أخذنا التقدم بالمفهوم الغربي إما بمعنى النمو الاقتصادي أو بمعنى التنمية البشرية الشاملة، وحاولنا القيام بالأول أكثر من الثاني لأنه أصعب. فمن السهل تنمية الموارد بوضع خطط للتنمية، ومن الصعب تنمية البشر بمكوناتهم التاريخية الموروثة، لذلك سرعان ما انهار التخطيط، وابتلعت الزيادة السكانية كل معدلات التنمية.
التقدم مطلب رئيسي لدى الشعوب النامية، شعوب أفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية، شعوب العالم الثالث. وهي أسماء حديثة تشير إلى العالم الإسلامي. كما أن من ضمن أسماء اليسار الإسلامي في مصر الإسلام التقدمي في تونس وإذا كان لفظ اليسار لفظاً قرآنيا بمعانٍ مختلفة، فإن لفظ التقدم والتأخر لفظان قرآنيان، فماذا يعنيان؟وقد قرن القرآن الكريم بين التقدم والتأخر وليس بين التقدم والتخلف كما تفعل النظريات التنموية المعاصرة. فقد ارتبط التخلف والخوالف بالقتال والقعود عن الجهاد. في حين ارتبط التقدم والتأخر بالعمل الصالح والطالح. التقدم للخير، والتأخر للشر. التقدم للحسنة، والتأخر للسيئة. وهو ما يعيه الإنسان يوم القيامة، «يُنَبَّأُ الإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأخَّرَ». إذ تتكشف الحقائق بعد الموت، «وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ، عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ». حينئذٍ يعلم الإنسان من المتقدم ومن المتأخر، «وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ». وفي مقابل هذه الإمكانية للتقدم والتأخر في الحياة عن طريق أفعال الإنسان الحر. لا يتقدم الموت ولا يتأخر. ويقع في وقت معلوم، «فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ».والتقدم لغوياً من فعل «قدم» الذي يعني شيئين: الأول القدم بمعنى القدم في الزمان، صفة لله، فالله قديم، والعرجون والضلال والإفك قديم، والآباء الأقدمون. والثاني بمعنى التقدم أي المستقبل. ويرمز إلى ذلك بصورة القدم في الرجل الذي يتقدم بالخطوة. فالتقدم إلى الأمام جهد إنساني. فالقدم قدم صدق، «وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ». والقدم يخشى من زللها، «وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا». لذلك يحرص الإنسان على ثبات الأقدام، «وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ». ويؤخذ الأشرار بالنواصي والأقدام، من أعلى ومن أدنى، «يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالأَقْدَامِ». ويداسون بالأقدام، «أَرِنَا اللَّذَيْنِ أَضَلانَا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الأَسْفَلِينَ».وقد ذكر لفظ التقدم في القرآن الكريم ثماني وأربعين مرة. معظمها أفعال، وأقلها (ثلاث عشرة مرة) أسماء. مما يدل على أن التقدم فعل بشرى وليس جوهراً ثابتاً في المجتمع، والتاريخ مرهون بالإرادة البشرية. والتقدم أو التأخر فعل حر، «لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ». وهو مرتبط بالإرادة الحرة أو المشيئة المختارة. فلا يوجد شعب متقدم بطبيعته، وآخر متأخر بطبيعته. ليس قدراً محتوماً على أحد كما تروج لذلك بعض النظريات العنصرية البيضاء ضد الأفارقة والآسيويين لولا ظهور النمور الآسيوية، والنموذج الآسيوي للتنمية والتقدم.ومعظم معاني اللفظ في القرآن تشير إلى الأعمال في صورة التقديم باليد. فاليد أداة العمل، والعمل تقديم، وهو في الأغلب عمل سلبي، ذنب يرتكب أو مصيبة، «فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ»، أو سيئة، «وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ». وقد يكون التقديم أيضاً للخير والعمل الصالح وليس للذنب والمعصية فحسب، «وَمَا تُقَدِّمُوا لأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا». وهو أيضا تقديم الصدقات، «أأشْفَقْتُمْ أنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ». والنسل والذرية تقديم للنفس وتقوية للأمة، «فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لأَنْفُسِكُمْ».والتقدمة تكون من النفس استعداداً للغد، «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ». وقد تقدم النبي بالوعيد إنذاراً وتبصرة للمتخاصمين، «قَالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ». فَهْم المستقبل أحد وسائل التقدم. أما لفظ «أخر» فقد ورد في القرآن الكريم خمساً وعشرين مرة أقل كما من لفظ التقدم مما يدل على أهمية التقدم على التأخر. كلها أفعال إلا واحدة اسم، فعل «المستأخرين» مما يدل على أن التأخر فعل بشرى ومسؤولية إنسانية. وقد ارتبط بالتقدم (عشر مرات) مما يدل مرة أخرى على اقتران الموضوعين، التقدم والتأخر. وهما للفعل وللأجل وللأفراد وللأمم، «مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ». وهنا يظهر لفظ سبق بمعنى تقدم مما يدل على أن التقدم سباق ومنافسة.ولكل فعل وقته ولا يمكن التأجيل كما هي الحال في الصلاة أداء أو قضاء، على الفور أو على التراخى. فالفعل مرهون بالحياة، وللحياة أجل فلا يمكن تأجيل القتال لدرء العدوان، «رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ». وللدنيا أجل عندما يأتي يوم القيامة في الوقت المحدد، «قُلْ لَكُمْ مِيعَادُ يَوْمٍ لا تَسْتَأخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً».تأخير فعل إبليس وحده إلى يوم القيامة ممكن. فقد طلب من الله الوقت أي الزمان لغواية بني آدم ولإثبات أن إبليس أفضل منه، وأن آدم ليس بأفضل من إبليس، «قَالَ أَرَأيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلا قَلِيلاً». ويمكن التقدم أو التأخر في فعل محدد مثل ذكر الله أياماً معدودات في مناسك الحج، «فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ». ولا يفيد الندم بعد فوات الوقت، فالزمان لا يستعاد، وما انقضى لا يعود، «رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ». فإذا أتت الآخرة فلا يمكن استعادة الدنيا، «لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ».ومع ذلك يمكن تأخير العقاب على الذنوب لاستثمار التوبة حتى يأتي الأجل، «مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إلَى أجَلٍ مُسَمًّى»، «وَمَا نُؤَخِّرُهُ إلا لأجَلٍ مَعْدُودٍ»، «إنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأبْصَارُ»، «يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أجَلٍ مُسمّى». فإذا انقضت الحياة وجاء الأجل انتهى التأجيل. «وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللهُ نَفْسًا إذَا جَاءَ أجَلُهَا».لقد استطاعت اليابان تحويل مفهوم التقدم الروحي الأخلاقي في البوذية إلى تقدم علمي وصناعي. وحولت المحور الرأسي للتقدم إلى أعلى أو إلى الداخل، وإلى أعماق النفس، وإلى محور أفقي إلى الأمام، من أجل تأصيل نهضتها المعاصرة في موروثها الثقافي القديم. كما استطاعت توسيع مفهوم التقدم الفردي إلى تقدم جماعي لأمة.أما نحن العرب والمسلمين فلم نؤصل مفهوم التقدم في تراثنا القديم بالرغم من أنهما مرتبتان حركيتان في المقدمات النظرية لعلم العقائد، التقدم بالرتبة والشرف. وأخذنا التقدم بالمفهوم الغربي إما بمعنى النمو الاقتصادي أو بمعنى التنمية البشرية الشاملة. وحاولنا القيام بالأول أكثر من الثاني لأنه أصعب. فمن السهل تنمية الموارد بوضع خطط للتنمية، ومن الصعب تنمية البشر بمكوناتهم التاريخية الموروثة، لذلك سرعان ما انهار التخطيط، وابتلعت الزيادة السكانية كل معدلات التنمية، بالإضافة إلى التبذير، وهدر الإمكانات. كانت التنمية مركزية بفعل الدولة ومن دون مشاركة شعبية كبيرة أو رقابة، ومن دون إحساس من الناس بأن عائدها لهم. فإذا قامت محاولات تنموية جديدة فالأجدر أن تبدأ بإعادة صياغة مفاهيم التقدم والتأخر في الثقافة الموروثة حتى تتأصل مشاريع التنمية في الثقافة الشعبية، وتكون نابعة من الناس، من تاريخهم تحقيقاً لمصالح حاضرهم وأملهم في المستقبل.* كاتب مصري