دارفور وتجارة الأطفال!
كيف حصل هؤلاء الأطفال على تأشيرة الدخول إلى فرنسا من دون السؤال عن ذويهم ومن يمثلهم؟ وكيف تم استغفال الجانب السوداني أو إهماله إن لم تكن هناك نيّة مبيّتة.
عكست فضيحة اختطاف «103» (مئة وثلاثة) أطفال من السودان، ومحاولة نقلهم وبيعهم في أسواق الرقيق من قبل تجار، وبمساعدة جمعيات إنسانية، وبحضور إعلاميين فرنسيين، حجمَ الاستغلال البشع لأزمة دارفور ذات البعد الإنساني وفي الوقت نفسه التداعيات الخطيرة التي أخذت تثيرها على صعيد بُعدها القانوني، ومن ثم بُعدها الأخلاقي، ناهيكم عن وجود النفط الذي أعطى لدارفور قيمة اقتصادية وسياسية مضافة، وعاظم من حجم المشكلة حتى غدت مسألة دولية.الأطفال الذين تم تهريبهم تتراوح أعمارهم ما بين سنة و8 سنوات وبطريقة لا تخلو من الاحتيال والتدليس وبصورة منظمة ومبرمجة، فقد جرى تجميعهم ونقلهم إلى تشاد، وهناك تم اكتشاف حجم الفضيحة عندما اعتقلت السلطات التشادية المسؤولين عن هذه العملية، وبينهم مسؤول في «منظمة أرش دو زوي» (منظمة قوس الحياة) الإنسانية غير الحكومية، وكانت حجة هؤلاء أنهم «أيتام» وهناك عائلات فرنسية أبدت استعدادها لتبنّيهم ورعايتهم بدلاً من موتهم المحتّم، وهكذا تظاهرت هذه المنظمات بـ«البعد الإنساني»!لكن الواقع كان شيئاً آخر، إذ ظهر حجم الزيف والخداع والغرض الحقيقي من هذه العملية اللاإنسانية التي استهدفت الحصول على مكاسب ربحية على حساب هؤلاء الأطفال المساكين وعائلاتهم المنكوبة، رغم علم الجهات المنفِّذة أن الاتجار بالبشر محرّم دولياً، فما بالك إذا كان من تم تهريبهم أطفالاً؟! لذلك فإن الجريمة ستكون مركّبة وعقوبتها مضاعفة لأن مثل هذه الجريمة تعتبر انتهاكاً سافراً وصارخاً لحقوق الأطفال من جهة تعاقب عليها القوانين الوطنية والدولية، ناهيكم عن كونها ضد كامل منظومة حقوق الإنسان الدولية بما فيها اتفاقية حقوق الطفل لعام 1989 من جهة أخرى.ويحق التساؤل: كيف حصل هؤلاء الأطفال على تأشيرة الدخول إلى فرنسا من دون السؤال عن ذويهم ومن يمثلهم؟ وكيف تم استغفال الجانب السوداني أو إهماله إن لم تكن هناك نيّة مبيّتة وتواطؤٌ واضحٌ أو مستورٌ بين الجهات غير الرسمية الفرنسية والسفارة الفرنسية أو من يقف خلفها من المتنفذين في الحكومة؟!ورغم أن حكومة ساركوزي أعلنت التنصل من هذه العملية بل أعربت عن قلقها بسبب أوضاع عوائل الأطفال الضحايا، وقالت إنها ستحرك تحقيقاً قضائياً لكشف ملابسات القضية، إلاّ أن مثل هذا «الإعلان العام» جاء بعد يوم واحد من زيارة وزير حقوق الإنسان الفرنسي إلى دارفور (راماياد)، إذ جاءت عملية النصب والاحتيال وكأنها مترافقة مع هذه الزيارة. لقد عززت هذه الفضيحة من الشك في بعض المنظمات الدولية «الغربية» غير الحكومية، خصوصاً في القضايا الأساسية والمصيرية وفي مناطق النزاعات تحديداً، وليس خافياً على أحد الموقف غير الحقوقي الذي اتخذته ثلاث منظمات حقوقية دولية مهمة، ولها دور كبير على الصعيد العالمي خلال انعقاد مؤتمر ديربن بشأن العنصرية والتمييز العنصري وكراهية الأجانب عام 2001، حين صوّتت أكثر من 3000 منظمة حقوقية ضد ممارسات إسرائيل العنصرية، في حين وقفت هذه المنظمات الكبرى موقفاً زعمت أنه «محايدٌ» بحجة الاعتدال وعدم الانحياز إلى أطراف الصراع ووضع مسافة متساوية بينهم، وهل يمكن لمنظمة حقوقية غير الدفاع عن الضحايا وحقوقهم بغض النظر عن أفكارهم ودينهم وجنسهم ولغتهم وقوميتهم وجنسيتهم وغير ذلك؟! وهو ما أثار علامات استفهام كبيرة حول بعض الأجندات الخاصة للمتنفذين في هذه المنظمات أو استعدادهم في لحظات تاريخية للتخلي عن قيم ومبادئ ساهمت هي في نشرها على أوسع نطاق.وذهبت بعض هذه المنظمات إلى اتخاذ مواقف بعيدة عن الشرعية الدولية لحقوق الإنسان، ونستذكر المواقف الملتبسة إزاء حصار الشعب العراقي بغض النظر عن انتهاكات نظامه الجسيمة والفادحة لحقوق الإنسان، وفي ما بعد إزاء احتلال العراق وما يتعرض له السكان المدنيون العزّل من انتهاكات سافرة وصارخة وعنف مذهبي وتطهير طائفي وإثني.وكانت منظمة مراقبة حقوق الإنسان، قد أصدرت تقريراً بُعيد العدوان الإسرائيلي على لبنان أدانت فيه ممارسات «حزب الله» المنافية لحقوق الإنسان لا سيما ضد السكان المدنيين في إسرائيل والأراضي المحتلة، لكنها سكتت عدة أيام بعد العدوان الإسرائيلي حتى اضطرت إلى إصدار تقرير آخر بعد مرور 12 يوماً على العدوان تندد فيه بما تقوم به إسرائيل من انتهاكات ضد الشعب اللبناني، خصوصاً السكان المدنيين الأبرياء في الجنوب.نسوق هذه الأمثلة ليس بهدف جعل صورة حركة حقوق الإنسان ضبابية أو التشويش عليها، فقد ساهمت تلك الحركة بجدارة وثقة في فضح الانتهاكات والممارسات الضارة والخطيرة لحقوق الإنسان على مستوى الشعوب أو الأفراد وعملت على نشر الوعي الحقوقي وتعزيزه، وأشاعت الثقافة الحقوقية خصوصاً إزاء كونها شريكاً للحكومات وقوة اقتراح وليس قوة احتجاج فحسب، إلاّ أن ورود اسم منظمة إنسانية في قضية تهريب أطفال دارفور استدعى هذا الهامش الانتقادي، إذ إن هناك محاولات غير قليلة لتسييس حركة حقوق الإنسان وتوظيفها ضد أهدافها ومبادئها.تعتبر جريمة الاتجار بالبشر من أخطر الجرائم وهي تضاهي وتزيد على جريمة المخدرات والاتجار بالسلاح، وجريمة تهريب الأطفال السودانيين هي جريمة بكل معنى الكلمة وبكل أركان الجريمة المادية والمعنوية، وهي تضاف إلى الجرائم في حق الأطفال الفلسطينيين والأطفال العراقيين، ولعل هذه الجرائم تطرح أسئلة حارة وحادة أمام الشرعية الدولية بشأن هذا العمل المشين، والأعمال الأخرى المماثلة في البوسنة والهرسك والصومال وكوسوفو ورواندا، لكن المؤسف حقاً هو غياب المنظمات الحقوقية العربية أو ضعف صوتها إزاء هذه الجريمة النكراء!* كاتب ومفكر عربي