آخر وطن: يا دنيا...شتّي شتّي!
مُنحاز أنا للشتاء... مُنحاز لما يتركه المطر من رائحة في جفاف الأرض... وما يخلفه من بلل في يباس الروح.
مُنحاز لقشعريرة البرد اللذيذة، واحتياج الدفء الموحي، وتلك اللحظة المدهشة المشبعة بالجمر، وتأوهات الحطب في «الدوّه». الشتاء يمنحنا الفرصة للتفاعل مع أطرافنا المنسيّة، أصابع أيدينا، أرجلنا، أرنبة آذاننا، رؤوس أنوفنا، ننشغل بها، نحتضنها بحميمية عاطفية مخافة عليها من التآكل. يحرضني الشتاء على الكتابة والبكاء! تغريني دموع السماء، وموسيقى الرياح. الصباحات الضبابية في الشتاء تجعل النظر يتجه إلى الداخل لنرى بوضوح أكثر. ملامسة وجوهنا لقبلة نسمة باردة، تشعل فينا لهباً يعبّر عنه دخان أنفاسنا. الليل... غطاء الصوف للأحلام الطويلة المترعة بالخُزامى وقوارير العطر والرغبات. الحكايات لها طعم آخر... طعم يوقد الزنجبيل في المخيلة ولكن بمذاق آخر. الشاعر أحمد السعد قال في احدى قصائده: «جانا الشتا جانا بهمومه وانتهى فصل النسايم والامل ما عاد اشوف... إلا الغيوم تملى السما...!!» إلى آخر القصيدة... أنا كنت ومازلت من أشد المعجبين بالشاعر أحمد السعد، لكن عندما قرأت هذه القصيدة أول مرة، وكان ذلك في بداية الثمانينيات، أذكر أنني أخذت موقفا حادا وسلبيا من الشاعر نفسه لعدة سنوات، ولا أشك أن المراهقة العمرية والفكرية أيضا في ذلك الوقت كان لها السبب الأكبر في اتخاذ مثل ذلك الموقف، لكني حينها كنت أقول كيف لشاعر ما أن يخاصم الشتاء بكل ما فيه من إثارة ومتعة؟! كيف لشاعر ما أن يستقبله بهجائية وإن كانت عذبة؟! كيف ينكر شاعر ما للشتاء من فضل عظيم على تأجيج المشاعر، ورغبتها العارمة في البحث عن الدفء؟! العلاقة في نظري بين الحب والشتاء قوية ورائعة، الشتاء يثري التفاصيل في العلاقات العاطفية، لحظات الاحتضان، الجري تحت المطر، رؤية حبات المطر تتساقط على زجاج النوافذ، الجلوس في مقهى واحتساء القهوة والاستمتاع برؤية الماء ينهمر من السماء على الشوارع، مشاهدة أوراق الشجر عائمة كالمراكب الصغيرة في الطرقات حاملة أحلام اللون الأخضر على متنها، مشاركة الحبيب مظلة واحدة، التصاق الحبيبين إثناء سيرهما جنبا إلى جنب طلبا للدفء، النظر إلى الغيوم في السماء ومحاولة فك رموزها التجريدية، ممارسة الشمس للعبة الاختفاء والظهور بين أكوام السحب، تفاصيل كثيرة تثري مرايا الذاكرة، لتصبح أرضا خصبة لاستنبات القصائد والحب ولحظات الارتواء. الآن الشتاء على الأبواب... فطوبى لمن تأهب بعتاد المشاعر له. طوبى لمن فتح نوافذ الروح لاستقبال الندى ولبى النداء. طوبى لمن اختار له مكانا يراقب من خلاله احتفال الطبيعة بقدوم موسم الشتاء. طوبى لمن ادخّر له حبيبا يشاركه متعة التفاصيل في الأيام القادمة. كلام في المناسبة: الجو جميل... اليوم... يستاهل احساسك غيم ورذاذ ناعم صبّي الندى بكاسك! خلّي ربيع الأرض رجلينك البيضا وشال السما... راسك! امتدّي طول الكون... امتدّي عرض الكون توزّعي... صيري... في كل شي حولك... نبض... وصفا... وعيون خلّي قُزح... ريشه... والدنيا كراسك!