Ad

هناك مشكلة قديمة جديدة، فالأحزاب الشيوعية التي أصيبت مبكراً بالتحجر العقائدي وبتصلب الشرايين السياسية، ابتليت أيضاً بقادة من المهد إلى اللحد، ففي كوبا، مثلاً، لم يتخلَّ كاسترو عن الحكم لأخيه راؤول إلا بعد أن أصبح هو وهي جثتين هامدتين، وهنا فقد كان من الأفضل لرفيق تشي غيفارا أن يترجل، وهو في ذروة تألقه وبريقه، وأن ينتقل بوطنه الصغير الجميل من حكم دكتاتورية البروليتاريا إلى حكم صناديق الاقتراع.

جزيرتان؛ الأولى في قلب البحر الكاريبي هناك في الغرب البعيد، والثانية هنا في الشرق في البحر الأبيض المتوسط... في الجزيرة الأولى تواضع الشقيق الأكبر فيدل كاسترو تحت ضغط الوهن والمرض وتخلّى عن حكم تمسك به لنحو نصف القرن لشقيقه الأصغر راؤول كاسترو الذي من المؤكد أنه سيبقى رئيسا بانتخابات حرة ديموقراطية، من قبل الجمعية الوطنية التي هي بدورها منتخبة بالأسلوب نفسه، بقية ما تبقى من عمره الذي أشرف على نهاياته... والأعمار بيد الله.

وفي الجزيرة الثانية، جرت انتخابات وفقا لأهم المعايير الديموقراطية في أكثر دول العالم ديموقراطية وأصبح شيوعيٌ آخر رئيساً لهذه الجزيرة ، التي وقعت في عام 1974 فريسة لصراع الأطماع الإقليمية، وهو الرفيق ديمثريوس خريستوفياس بنسبة %53.36 من أصوات القبارصة مقابل %46.64 لمصلحة منافسة، وليس خصمه، اليميني أيانس كاسوليدس... فأي حق رُفع وأي باطل وُضع!!

وبهذا فإن قبرص التي بلغ عمر استقلالها نحو خمسة وأربعين عاماً، مع الأخذ بعين الاعتبار الانقلاب الأهوج الذي نفذه صحافي مغمور ضد المطران مكاريوس بدعم من الحكم الدكتاتوري اليوناني العسكري في عام 1974، تكون قد شهدت سلسلة انتخابات ديموقراطية وتناوب عليها ستة رؤساء منتخبون، بينما تلك الجزيرة السعيدة الأخرى لم تعرف إلا فيدل كاسترو الذي بقي لتسع وأربعين سنة متربعاً على كرسي الحكم، وعندما تكرم وتنازل فإنه تنازل لأخيه راؤول (76 عاماً) الذي كان شريكه الفعلي والوحيد في حكم كوبا التي كانت في عهد باتيستا تعتبر الحديقة الخلفية للولايات المتحدة الأميركية.

إن الأحزاب الشيوعية كلها في هذه المنطقة قد سقطت سقوطا ذريعاً بعد انهيار الاتحاد السوفييتي ومعسكر المنظومة الاشتراكية، أما حزب «أخيل»، الذي هو الحزب الشيوعي في نجمه الهلال الخصيب، حسب أنطون سعادة وحسب حزبة الحزب القومي الاجتماعي السوري، فإنه بدلاً من أن يستسلم لواقع الهزيمة، أخذ بنظرية النقد والنقد الذاتي وأعاد النظر في برامجه التي كانت بالأساس مرنة وغير متحجرة، وازداد اقتراباً من هموم أبناء شعبه، فكرموه بأن أعطوه في انتخابات حرة وديموقراطية بالفعل موقع رئاسة الجمهورية.

في كوبا لم يتخلَّ كاسترو عن الحكم لأخيه راؤول إلا بعد أن أصبح هو وهي جثتين هامدتين، وهنا فقد كان من الأفضل لرفيق تشي غيفارا أن يترجل، وهو في ذروة تألقه وبريقه، وقد كان من الأفضل أن يستفيد من درس انهيار الاتحاد السوفييتي والشيوعية العالمية التقليدية وفقاً لمواصفات جوزيف ستالين، وأن يعيد النظر في حزبه وبرامج هذا الحزب، وأن ينتقل بوطنه الصغير الجميل من حكم دكتاتورية البروليتاريا إلى حكم صناديق الاقتراع.

لكن الرفيق فيدل لم يفعل هذا، ولم يفعل ما فعله مانديلا وسوار الذهب أيضاً، وهو حتى بعدما أصبح جثة هامدة أصر على تسليم الحكم إلى جثة هامدة أخرى، وهذا سيجعل التحول المرتقب القادم حتماً ولادة قيصيرية بدلاً من أن يكون ولادة طيبعية وسلسة ومن دون دماء ومخاطر وأوجاع.

إنها مشكلة قديمة جديدة، فالأحزاب الشيوعية التي أصيبت مبكراً بالتحجر العقائدي وبتصلب الشرايين السياسية، ابتليت أيضاً بقادة من المهد إلى اللحد، ولعل المثل المأساوي على هذا أن خالد بكداش بقي لنحو سبعين عاما أميناً للحزب الشيوعي السوري، وهو عندما توفاه الله، خلفته زوجته في هذا الموقع الذي انتقل إلى ولدها وولده بعد ذلك!

* كاتب وسياسي أردني