Ad

أكثر المحللين يرفضون فرضية «التقية» ويعتقدون أن «التوبة» حقيقية وأن تلك الجماعات قد قررت -صدقاً- بعد أن راجعت نفسها أن العنف لم يأتِ بخير، بل سبب أذى كبيراً، لذلك قررت تطليق العنف بلا رجعة والعودة إلى الدعوة السلمية، وأن هذه المراجعات الفكرية ما هي إلا انعكاس لتغيير جذري في بنيان تلك الجماعات.

كنا توقفنا في المقال السابق عند أهم المراجعات للجماعة الإسلامية، ونعرض الآن رأيها في ما يتعلق بأعمال «القاعدة» في العراق، فهم يرفضون ممارسات «القاعدة» وتوجهاتها، ويرون أن هدف «القاعدة» إبادة الشيعة والأكراد وليس تحرير العراق، وأن جماعة الزرقاوي لا تعرف معنى «الجهاد»، كما أدانوا تفجيرات الجزائر وقالوا: «متى يتعلمون حرمتها شرعاً؟»، كما أدانوا تفجيرات الرياض وردوا على الظواهري وفنّدوا مستنداته الفقهية، كما انتقدوا أنفسهم وقالوا إن العمليات التي حدثت في الماضي أخّرت الإسلام والمسلمين ولم تحقق الجماعة من ورائها أي مكاسب.

وأن التفجيرات الحاصلة في المجتمعات الإسلامية تستهدف ضحايا مسلمين ولا تصيب عدواً، وفي تعليقهم على تفجيرات «شرم الشيخ» قالت الجماعة الإسلامية وجماعة «الجهاد»: «القتل والتفجير ليسا جهاداً وما يحدث في العراق وفلسطين ليس مبرراً، وهي لا تخدم إلا الأعداء»، وبالنسبة للسياح قالت الجماعة الإسلامية: «السياح ليسوا محاربين وتأشيرة الدخول تقوم مقام الأمان». كما حرّموا الخروج المسلح على الحكام لأنه أضعف الدين، وهو من أعظم الأسباب لتدخّل الدول الكبرى في شؤون المسلمين.

وهاجموا «بن لادن» لأن فتواه تسببت في قتل الأبرياء، وقالوا: «المناداة بفتح باب الجهاد ضد إسرائيل مستحيلة وغير واقعية ولا يطلق لقب شهداء على المفجّرين غير الملتزمين بشروط الشهادة، والدعوة إلى الجهاد مقصورة على الأمة لا على الأفراد ولا على أي جماعة مهما كبرت، مع التحقق من أن الدماء لن تراق هدراً وأن العمل الجهادي لا يمس حاجات الناس وأرزاقهم ومرافق البلاد الحيوية».

وبالنسبة لـ11- 9فإنهم انتقدوا نظرية المؤامرة المسيطرة على أذهان كثير من المسلمين بأن هجمات 11 سبتمبر لم تقم بها «القاعدة» إنما الموساد الإسرائيلي... وبالنسبة للمقاطعة قالوا: «الدول العربية ستكون هي الخاسرة الكبرى إذا قطعت علاقتها مع أميركا أو مع الدول التي تنتهك حقوق المسلمين واستنكروا استخدام المساجد كمخازن للسلاح أو المنشورات وطالبوا بتنزيه المساجد عن مثل هذه الأعمال حتى يحفظوا لها قدسيتها». وقالوا عن عمليات خطف الرهائن وتهديدهم بالذبح أمام القنوات الفضائية «إنه يعطي أسوأ صورة عن الإسلام». وقالوا إن الحكم على الناس ليس من شأن الجماعات الإسلامية بل من شأن القضاة، كما انتقدوا الجماعات الجهادية في السعودية، وقالوا عن صدّام إنّ استراتيجيته تمثل قمة الغباء السياسي. وبالنسبة لدارفور قالوا: «على الدول العربية أن تعتبر بما حدث في دارفور حتى لا تقع تحت أقدام المحتل الأجنبي»، وانتقدوا جماعة الإخوان المسلمين وقالوا «إنها هي التي وضعت فكر التكفير في السبعينيات، ونطالبها الآن بالسير على نهجنا السلمي»، كما دافعت الجماعة الإسلامية عن مبادرة جماعة «الجهاد» وطالبت أصوليي الخارج بوقف التشكيك فيها واعتبرتها إحدى ثمار مبادرتها لوقف العنف.

أما أهم ملامح مراجعات «الجهاد» فتقترب من مراجعات الجماعة الإسلامية في عدم الصدام مع الحاكم المسلم لتطبيق الشريعة وعدم تكفير المسلمين وعدم التعرض للسياح ولا يجوز الخروج إلى الجهاد إلا بإذن الوالدين والدائن، وأن الجهاد ليس هو الخيار الشرعي الوحيد لمواجهة الواقع غير الشرعي، وأن أقوال الأئمة الأربعة وغيرهم ليست حجّة، والفقيه من يختار أهون الشرين وأخف الضررين، وأن الفسق والمعاصي لا تخرج فاعلها عن الإسلام، وغير صحيح قول الجهاديين «الرضا بالكفر كفر» وأن الأعمال التي اشتملت على سفك الدماء وإتلاف الأموال من الكبائر المحرّمة التي لا يجوز لمسلم أن يفرح أو يفتخر بها، ومن رضي بها كان عليه مثل ذنب فاعلها، إذ لا فخر بأعمال الغدر، ولا فخر بغزوات الغدر ، وإن ظنّها الجُهّال بطولات، واعلم أيها المسلم أنه لا يوجد شيء في الشريعة، قتل اليهود والنصارى كلهم الذين يسميهم البعض بالصليبيين -انتقاداً لـ«القاعدة»- كما أن اعتداء دول أجنبية على المسلمين وقتلهم من دون تمييز لا يبيح لنا الردّ بالمثل. هذا بعض ما جاء في وثيقة د.فضل: «هناك تساؤلات أخيرة: ما أبرز الملاحظات على هذه المراجعات؟ وما مدى جديتها؟ وهل تمثل قطيعة معرفية مع جذور العنف أم أنها مناورة أو صفقة أمنية؟ وهل لها تأثير على وقف العنف في الساحة؟ وما أبرز دوافع التحول؟

هناك بطبيعة الحال من يشكك في حقيقة المراجعات ويعتبرها نوعاً من «التقيّة» لجأت إليها الجماعات الأصولية لتتجنّب مزيداً من القمع بعد المعاناة والتعذيب في السجون على امتداد أكثر من 3 عقود، فهي إذاً صفقة أمنية يجري بمتقضاها الإفراج عن المسجونين في مقابل التوقف عن النشاط أو الحركة من جانبهم، لكن أكثر المحللين يرفضون هذه الفرضية ويعتقدون أن «التوبة» حقيقية وأن تلك الجماعات قد قررت -صدقاً- بعد أن راجعت نفسها أن العنف لم يأتِ بخير بل سبب أذى كبيراً، لذلك قررت تطليق العنف بلا رجعة والعودة إلى الدعوة السلمية، وأن هذه المراجعات الفكرية ما هي إلا انعكاس لتغيير جذري في بنيان تلك الجماعات، ولهذا يقول اللوء فؤاد علاّم «إن منهج الجماعات الأصولية يختلف بشكل كامل عن منهج الإخوان في مسألة (التقيّة) فالجماعة الإسلامية أو الجهاد لو تراجع أي منهما عن أفكاره فإنه يفعل ذلك عن إيمان بأخطائه، على عكس فكر الإخوان الذين يظهرون أشياء ويبطنون أشياء أخرى، كما أن الجماعات اعترفت بوضوح أنها أخطأت وتريد تصحيح أخطائها بعكس جماعة الإخوان والقوميين واليساريين الذين لم يعترفوا بأخطائهم حتى الآن، ولم تصدر منهم أي مبادرة للمراجعة الفكرية لطروحهم التي دمّرت العالم العربي وبددّت موارده. ذلك يؤكد أنّ تلك الجماعات وعلى امتداد الـ3 عقود لم تتبّنّ أي عمل عدواني.

يقول ضياء رشوان «إن الحديث عن صفقة لا يصمد أمام عدة حقائق، أولاها أن المبادرة قد صدرت بامتناع ذاتي داخلي في صفوف القيادات التاريخية للجماعة نتيجة لعوامل كثيرة مركبة ذاتية ومصرية وإقليمية ودولية، والحقيقة الأخرى التي تؤكد عدم وجود صفقة هي استمرار الدولة خلال الأعوام السابقة في عقد محاكمات واسعة لأعضاء الجماعة صدرت بحقهم خلالها أحكام الإعدام، ونُفّذ بعضها». وأما عن تأثير المراجعات في تراجع العنف، فالتأثير الأهم هو في الساحة المصرية أما خارج الساحة المصرية فالأمر مرهون بقدرة الحكومات على تجفيف منابع فكر الكراهية: تعليماً وخطاباً دينياً وإعلامياً ويبقى أن نقول: مرحباً بالمراجعة ولو كانت لروح آثمة.

* كاتب قطري- تنشر بالمشاركة مع «الوطن» القطرية