علت مكانة فرسان المماليك بمصر بعد تصديهم لحملة لويس التاسع التي شهدتها مدينة المنصورة، وأبلوا في ساحة القتال بلاءً حسنا، وضربوا أروع الأمثلة في الشجاعة والفداء، حتى مُنيت الحملة بالفشل ولحق بها عار الهزيمة، وأعلنوا بذلك ميلاد دولة المماليك سنة 647هـ- 1250م، وترتب على هذا النصر المبين ان ارتفع شأنهم باعتبارهم القوة التي هيأت لها الأقدار أن تنهض بمهمة الدفاع عن العالم الإسلامي الذي كانت تتناوشه قوتان: إعصار المغول القادم من الشرق، وخطر الصليبيين القابع في بلاد الشام.

Ad

ودشن المماليك دولتهم بانتصار قطز في «عين جالوت فلسطين» على المغول في سابقة لم تحدث من قبل، في الوقت الذي عجز فيه الأيوبيون حكام الشام عن التصدي لهذا الخطر المغولي.

وعندما ساءت العلاقة بين العثمانيين والمماليك، وفشلت محاولات الغوري في عقد الصلح مع السلطان العثماني «سليم الأول» وإبرام المعاهدة للسلام، فاحتكما إلى السيف، والتقى الفريقان عند «مرج دابق» بالقرب من حلب في (25 من رجب 922هـ - 24 من أغسطس 1516م).

وأبدى المماليك في هذه المعركة ضروبا من الشجاعة والبسالة، وقاموا بهجوم خاطف زلزل أقدام العثمانيين، وأنزل بهم خسائر فادحة، حتى فكّر سليم الأول في التقهقر، وطلب الأمان، غير أن هذا النجاح في القتال لم يدم طويلا فسرعان ما دب الخلاف بين فرق المماليك المحاربة، وانحاز بعضها إلى الجيش العثماني بقيادة «خايربك».

السلطان طومان باي

اتفقت كلمة الأمراء في مصر على اختيار «طومان باي» للسلطنة، فأخذ يستعد لمقاومة العثمانيين وعزم على الخروج لقتالهم ولا ينتظر مجيئهم، ولكنه اصطدم بتخاذل المماليك، واستهانتهم بخطورة الموقف، وعدم تقديرهم المسؤولية، في الوقت الذي أرسل فيه السلطان سليم الأول رسالة إلى طومان باي يعرض عليه الصلح ويبقيه على حكم مصر في مقابل أن يقر بتبعيته للدولة العثمانية، غير أن هذه المساعي السلمية لم تكلل بالنجاح.

واضطر طومان باي لمواصلة الاستعداد للقتال، فخرج إلى «الريدانية» وتحصّن بها فحفر خندقا على طول الخطوط الأمامية، ووضع مدافعه الكبيرة وأعد أسلحته وبنادقه وحاول شحذ همة مماليكه وقواته، ولكن من دون جدوى؛ فقد جبن كثير منهم عن اللقاء حتى كان بعضهم لا يقيم بالريدانية إلا خلال النهار حتى يراهم السلطان، وفي المساء يعودون إلى القاهرة للمبيت في منازلهم.

ولم يكن من شأن جيش كهذا أن يثبت في معركة أو يصمد للقاء أو يتحقق له النصر، فحين علم طومان باي وهو في الريدانية بتوغل العثمانيين في البلاد المصرية حاول جاهدا أن يقنع أمراءه بمباغتة العثمانيين عند الصالحية، وهم في حالة تعب وإعياء بعد عبورهم الصحراء، لكنهم رفضوا، معتقدين أن الخندق الذي حفروه بالريدانية كفيل بحمايتهم ودفع الخطر عنهم، لكنه لم يغن عنهم شيئا، فقد تحاشت قوات العثمانيين، التي تدفقت كالسيل مواجهة المماليك عند الريدانية عندما علمت تحصيناتها، وتحولت عنها، واتجهت صوب القاهرة، فلحق بهم طومان باي.

والتحم الفريقان في معركة هائلة في (29 من ذي الحجة 922هـ = 23 من يناير 1517م)، وأبلى طومان باي في المعركة بلاء حسنا، وقتل «سنان باشا الخادم» الصدر الأعظم بيده، وكثرت القتلى بين الفريقين، غير أن العثمانيين حملوا على المماليك حملة صادقة زلزلت الأرض من تحتهم، فضاقت عليهم بما رحبت، وانسحب طومان باي ومن بقي معه إلى نواحي الفسطاط، ودخلت طلائع الجيش العثماني مدينة القاهرة، وأخذوا يتعقبون جنود المماليك في كل مكان

ولم يكد يهنأ سليم الأول بهذا الفتح حتى باغته طومان باي في «بولاق»؛ وذلك في اليوم الخامس من المحرم، واشترك معه المصريون في هذه الحملة المفاجئة، وأشعلوا في معسكر سليم الأول النيران، وظن الناس أن النصر آت لا محالة، واستمرت مقاومة المماليك أربعة أيام وليال، وظهروا فيها على العثمانيين، حتى انه خطب لطومان باي في القاهرة في يوم الجمعة، وكان قد دعي لسليم الأول في الجمعة التي سبقتها، إلا أن هذا الفوز لم يحسم المعركة لمصلحة طومان باي؛ إذ سرعان ما لجأ الجنود العثمانيون إلى سلاح البنادق، وأمطروا به من فوق المآذن الأهالي والمماليك، فأجبروهم على الفرار، وفرَّ طومان باي إلى «البهنا» التي تقع غربي النيل في جنوب القاهرة.

ظل طومان باي يعمل على المقاومة بما تيسر له من وسائل، واجتمع حوله كثير من الجنود وأبناء الصعيد حتى قويت شوكته، غير أنه أدرك أن هذا غير كاف لتحقيق النصر، فأرسل إلى سليم الأول يفاوضه في الصلح، فاستجاب له السلطان العثماني، وكتب له كتابا بهذا، وبعث به مع وفد من عنده إلى طومان باي، لكن الوفد تعرض لهجوم من بعض المماليك وقتل بعض رجاله؛ فحنق السلطان سليم الأول وخرج لقتال طومان باي بنفسه، والتقى الجيشان قرب قرية «الوردان» بالجيزة في (9 من ربيع الأول 923 هـ =1 من إبريل 1517م)؛ حيث دارت معركة حامية استمرت يومين وانتهت بهزيمة طومان باي وفراره إلى البحيرة.

على باب زويلة

لجأ طومان باي إلى أحد رؤساء الأعراب بإقليم البحيرة، طالبا منه العون والحماية فأحسن استقباله في بادئ الأمر، ثم وشي به إلى السلطان سليم الأول، فسارع بإرسال قوة للقبض عليه فأتت به إليه، وأخذ السلطان يتأمله معجبا بشجاعته وفروسيته، ثم عاتبه واتهمه بقتل رسله الذين أرسلهم لمفاوضته في الصلح، فنفى طومان باي التهمة عن نفسه، وبرر استمراره في القتال بأن الواجب يحتم عليه هذا، وكاد السلطان العثماني من إعجابه بشجاعة طومان باي أن يعفو عنه، ولكنه لم يفعل تحت تأثير الوشاة الذين حرّضوا السلطان على قتله بحجة أن لا بقاء لملكه في مصر ما دام طومان باي على قيد الحياة.

وفي يوم الأحد الموافق (21 من شهر ربيع الأول 923 هـ = 15 من إبريل 1517م) أخرج طومان باي من سجنه، وسار وسط حرس عدته 400 جندي إلى باب «زويلة»؛ حيث نصبت له مشنقة فتقدم لها هادئ النفس ثابت الجنان والناس من حوله يملؤون المكان، حيث لقي حتفه وسقط ميتا؛ فصرخ الناس صرخة مدوية تفيض حزنا وألما، وظلت جثته معلقة ثلاثة أيام ثم دفنت في قبة السلطان الغوري، وبموته انتهت دولة المماليك وسقطت الخلافة العباسية، وأصبحت مصر ولاية عثمانية.