لم تكن بغداد بالحاضرة الأولى للعباسيين، إذ بويع أبو العباس السفاح بالخلافة بمدينة الكوفة ثم تحول إلى الأنبار، حيث أسس مدينة الهاشمية واتخذها مقراً لحكمه.وظلت الهاشمية حاضرة للخلافة العباسية إلى عهد أبي جعفر المنصور الذي بعث رجالاً له في سنة 145هـ يختارون موضعاً يبني فيه مدينة، ولم يرض بأكثر من موضع حتى استقر رأيه على اختيار موضع بغداد، وقال «هذا موضع أرضاه تأتيه الميرة من الفرات والدجلة والصراة» وأردف قائلاً «هذه والله المدينة التي أعلمني أبي أني ابنيها وأنزلها وينزلها ولدي من بعدي وقد غفلت عنها الملوك في الجاهلية والإسلام حتى يتم تدبير الله تعالى وحكمه في أمري».
ورغم سذاجة وأسطورية مقولة المنصور الأخيرة والتي أراد بها إسباغ صبغة دينية على اختياره لموقع الحاضرة الجديدة، إلا أن البعض من أشياع العباسيين قد ذهب إلى أبعد من ذلك ووضع أحاديث نسبت إلى الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال «تبنى مدينة بين دجلة والدجيل والصراة وقطر بل يجبي إليها خراج كل أرض وتجمع إليها جبابرة الأرض».
ومهما يكن من أمر هذه الروايات التي أحاطت أمثالها دوماً بنشأة المدن الجديدة فإن الثابت أن المنصور اختار موضع بغداد لاعتبارات عدة ومن بينها حصانة الموقع الطبيعية، حيث يعتبر نهر دجلة والفرات بمنزلة خندق مائي يزيد مدينته تحصيناً، فضلاً عن غناها لوقوعها في أرض السواد الخصيبة بالعراق ولتقابل عدة طرق تجارية رئيسية عندها سواء عبر البحر أو من البحر على طول النهر.
وكان لاختيار أبي جعفر المنصور لهذا الموقع بالقرب من مدينة المدائن القديمة «طيسفون» عاصمة الدولة الساسانية مغزاه، إذ كان هذا الاختيار ينبئ عن ميل العباسيين ناحية الشرق، حيث يوجد أنصار دعوتهم في فارس وخراسان، وابتعادهم عن الشام بقربها من البحر المتوسط وأسطول البيزنطيين.
وطبقاً للمعاجم الجغرافية فإن في نطق اسم المدينة الجديدة أربع لغات بغداد بدالين مهملتين وبغداد معجمة الأخيرة وبغدان بالنون ومغدان بالميم بدلاً من الباء وتُذكر وتُؤنث.
وبغداذ هو في الأصل اسم لقرية قديمة من قرى الفرس ويعني اسمها «عطية الله» و«بغ» اسم علم لإله وثني من الشرق الآسيوي و«داذ» بمعنى «أعطى» ولذا كان المتورعون يكرهون أن يسموا «بغداذ» بهذا الاسم ويقولون بغداد بالدال المهملة.
وعرفت بغداد أيضاً بمدينة أبي جعفر وبالمدينة المدورة لأن تخطيطها كان على هيئة دائرة، أما اسمها الرسمي الذي ورد على نقود بني العباس فهو «مدينة السلام» لأن دجلة كان يقال له «وادي السلام» وقيل إنما أرادوا مدينة الله «السلام» لتكون ترجمة عربية إسلامية للاسم الفارسي.
وبعد استقرار المنصور على تشييد عاصمته في موقع بغداذ أرسل يطلب الصنَّاع والفعلة من الشام والموصل والجبل والكوفة وواسط والبصرة فاجتمع له نحو مئة ألف من أصناف المهن والصناعات.
ثم أمر باختيار قوم من أهل الفضل والعدالة والعفة والأمانة والمعرفة بالهندسة، وكان فيمن أحضر الحجاج بن أرطأة والإمام أبو حنيفة النعمان وشرع في تشييد مدينة السلام في عام 145هـ بعد مشورة الفلكيين الذين أخبروه أن الطالع سعيد، إذ ان المشترى كان في القوس فدلت النجوم على طول ثباتها وكثرة عمارتها وانصباب الدنيا إليها.
واختار المهندسون الخمسة الذين تولوا تصميم بغداد أن يشيدوها على هيئة دائرة يبلغ محيطها 16 ألف ذراع وقطرها 5093 ذراعاً وكان ذلك في ما يبدو بغرض تخفيض كلفة إنشاء سورها، ذلك أن محيط المساحة المدورة يقل طوله عن محيط مساحة مربعة مساوية لها بنحو 11.37 %.
وأشرف على أعمال البناء أربعة مشارفين كان منهم أبو حنيفة النعمان وكان يحسب الطوب بعد المداميك بواسطة مسطرة مدرجة. وقد استغرق البناء نحو عامين كاملين أصبحت بعدهما بغداد حاضرة للخلافة العباسية أقوى دولة في عالم العصور الوسطى آنذاك.
وكان للمدينة سوران خارجيان بينهما فصيل أو فضاء وكان ارتفاع السور الداخلي 35 ذراعاً وبه 113 برجاً دفاعياً، أما السور الخارجي فكان يحيط به خندق عميق عرضه نحو 11 ذراعاً أجرى فيه الماء من قناة تخرج من نهر كرخايا. وكان للمدينة أربعة أبواب رئيسية هي أبواب الكوفة والبصرة وخراسان والشام، ولكل هذه المداخل بوابات حديدية منزلقة جلبت جميعها من مبان قديمة في ما عدا بوابة الشام التي صنع لها باب منزلق خاص.
وقد قسمت المدينة إلى أربعة أقسام رئيسية بواسطة الشوارع الرئيسية التي كانت تمتد لتصل بين كل بابين من الأبواب الأربعة الرئيسية، واحتوى كل قسم على عدد من الشوارع والدروب، وكانت جميعها تنتهي عند مركز المدينة «الدائرة»، وفي هذا المركز يقع قصر الخليفة وبيت المال والجامع الكبير.
ويمثل موقع القصر أهمية مزدوجة فهو يشرف بقبته الخضراء على الرعايا، ومن ناحية أخرى كان على من يريد اجتياح دفاعات بغداد أن يمر وسط الكتلة السكانية قبل أن يصل إلى قصر الخليفة الذي ستتوافر له في هذه الحالة فرصة الفرار عبر أي من البوابات الأخرى للمدينة.
وقد عرف قصر أبي جعفر باسم قصر الذهب أو «باب الذهب» وكان ارتفاع قبته الخضراء يزيد قليلاً على 40 متراً وفي أعلاها تمثال فارس بيده حربة يقال انه كان يتجه نحو الجهة التي كان يخرج فيها ثائراً على الخليفة، ويظهر أن كثرة الثوار قد أدت إلى سقوط القبة في سنة 329هـ (941م).
وشُيّد لصق السور الشمالي الشرقي للقصر المسجد الجامع وكان على مقربة منهما قصور الأمراء ومقار الدواوين.
ومنذ تأسيس مدينة السلام ظهرت بعض الضواحي خارج أسوارها، فقد شيد المنصور «قصر الخلد» خارج الأسوار كما بنى في شماله الرصافة لولي العهد وامتد العمران عدة أميال على جانبي الدجلة ونتيجة للحرب التي نشبت بين الأمين والمأمون (195 - 198هـ) تهدمت أسوار بغداد وصار العمران متصلاً بين العاصمة المدورة وضواحيها المختلفة.
وكانت بغداد خلال العصر العباسي حاضرة للدنيا ويضرب المثل بفخامة بلاطها الذي كان يشغل بقصوره وحدائقه نحو ثلث مساحة المدينة، ويكفي أن المصادر التاريخية تحكي أن قصر الخليفة في عهد المقتدر العباسي كان مفروشا باثنين وعشرين ألف بساط على الأرض وثمانية وثلاثين ألف بساط على الحوائط، منها ألف وخمسمئة من الحرير المطرز، وكان بالقصر شجرة مصنوعة من الفضة والذهب وزنها خمسمئة ألف درهم عليها تماثيل طيور من الذهب والفضة تتحرك وتغرد.
وخلال عصرها الذهبي ولاسيما في عهدي الرشيد والمأمون احتضنت بغداد أوسع حركة للتأليف والترجمة، وأضحت مركزاً ثقافياً مزدهراً تنتشر منه الثقافة إلى سائر أنحاء الدولة بل وإلى أوروبا أيضاً. وازدانت بغداد بالمساجد وبيوت الحكمة والمدارس وخصوصا بعد تأسيس الوزير السلجوقي نظام الملك لمدرسته الشهيرة النظامية ومن بعدها المدرسة المستنصرية التي كانت جامعة يفد إليها طلاب العلم، كما كان بها عدد ضخم من خزائن الكتب حتى ان الدجلة تحولت مياهه إلى السواد نتيجة لقيام المغول بإلقاء الكتب فيه بعد غزوهم بغداد. وتذهب بعض الكتابات إلى تقدير عدد سكان مدينة السلام في أوج عمرانها في القرن الخامس الهجري (11م) بنحو ثلاثة ملايين نسمة يُصلُّون في سبعة وعشرين ألف مسجد.
ويستخدمون ستة آلاف حمام وينتقلون لأغراض التجارة أو النزهة باستخدام ثلاثين ألف زورق.
وكانت بغداد تزدحم بقصور العباسيين من الأمراء ومن أهم هذه القصور الأخيضر الذي مازالت بقاياه ماثلة للعيان.
وقد عرفت بغداد أوقاتاً عصيبة في تاريخها إما بسبب الأوبئة الفتاكة التي اجتاحتها في بعض السنوات أو لكثرة المشاحنات والفتن كالتي وقعت عند نكبة البرامكة أو تكررت فيها بين السنة وشيعة الكرخ.
ولعل أهم هذه الفتن ما جرى أثناء النزاع بين الأمين والمأمون أو عند احتدام الصراع بين أهل بغداد وحرس الخليفة المعتصم من الأتراك الذين كانوا يتجولون في دروب المدينة بخيولهم، الأمر الذي أدى إلى تشييد عاصمة جديدة للخلافة العباسية وهي مدينة سامراء، ولكن الخلفاء هجروها بعد نحو نصف قرن وعادوا للإقامة في بغداد.
وظلت بغداد حاضرة للعباسيين إلى أن اجتاحها هولاكو في سنة 656هـ (1258م) وقتل الخليفة المعتصم بالله وقضى بذلك عمليا على خلافة العباسيين ولم يكتب لمحاولات المماليك في مصر أي نجاح لبعث هذه الخلافة.
ورغم كل هذه المحن، فقد حافظت بغداد على مكانتها كعاصمة للعراق في مختلف العهود سواء كولاية تابعة لايلخانات المغول في فارس أو حتى كولاية خاضعة للإدارة العثمانية، إذ كان باشا بغداد هو الأعلى سلطة بين جميع الولاة العثمانيين في العراق.