تحية للزميل الجطيلي
أصبحت الوطنية هي ممارسة «أضعف الإيمان» برفض الفساد بالنية أو الانسحاب السلبي من ساحة المعركة، وسُخطت الأخلاق لتتلخص في «البعد عن المنكر» والدين في قول «لا إله إلا الله»!
من التحقيقات المثيرة التي نشرتها «الجريدة» تحقيق الزميل ضاري الجطيلي «مطلقو الصفارة» المنشور يوم الثلاثاء الموافق 28 أغسطس، فالكل يتحدث عن الفساد وحماية المال العام من دون وجود آلية واضحة لاكتشاف الفساد وحماية «مطلقو الصفارة» من الابتزاز أو الانتقام. وقد أشار التحقيق إلى ثلاثة عوامل رئيسة لتحقيق حماية المصلحة العامة والحد من الفساد: النية والجرأة للتبليغ؛ وحرية واستقلالية الإعلام؛ وأخيرا الغطاء القانوني الكافي. وفي رأيي، أن مشكلتنا الرئيسة في الكويت رغم غياب تلك العوامل كلها هي فقدان النية والجرأة الحقيقية في مواجهة الفساد.فماضي الكويت، رغم تعتيم الإعلام وتحريف التاريخ، حافل بالرجال الذين دفعوا مستقبلهم وأحياناً حياتهم ثمناً للتصدي للفساد وكشف التلاعب والاختلاسات في القطاعات الحكومية والأهلية والخاصة، فالكثير من الاعتقالات والاغتيالات السياسية وغير القانونية في تاريخ الكويت كانت بغرض إيقاف وإخافة المتصدين للفساد. فرغم ضنك العيش والضغوطات الاجتماعية والسياسية، فإن الأساس (وليس الاستثناء) هو رفض الفساد والمفسدين. أما في أيامنا هذه فقد أصبح الفساد جزءاً من الحياة لابد أن نتعايش معه، إن أردنا النجاة. والشجاع هو من ينسحب بهدوء ويبتعد من دون إطلاق صفارة... أو حتى نسمة. وعندما تعم هذه الحالة في مجتمع متخلف أو فقير اقتصادياً، فإننا قد نجد عذراً للخوف أو التخاذل. فمن دون الرشوة والنفاق يصعب على الموظف البسيط توفير أبسط متطلبات الحياة لأسرته. كما أن الأمية والتخلف الاجتماعي والجهل قد تجعل من الصعب على الفرد أن يتعرف على الخطأ أو الوسيلة الأفضل لعلاجه، ولكن ما عذرنا في الكويت خصوصا في ظل الرفاهية الاقتصادية وما يسمى بالصحوة الدينية؟لنأخذ، على سبيل المثال لا الحصر، الفساد المزكم للأنوف في البلدية والصحة، إذ لا يمكن لأي مراجع ألا يرى بأم عينه الرشوة والتجاوزات على حقوق المواطن والعاملين وأموال الدولة، ولم يبق أحد في الحكومة أو المجلس أو جمعيات النفع العام أو التنظيمات السياسية إلا تحدث عن فساد البلدية وتجاوزات الصحة، ولكن أين الفعل؟ ما الإجراءات المتخذة أو المقترحة لحل مافيات البلدية والصحة؟ وأين المصفرون؟ الكويتيون العاملون في هاتين المؤسستين هم، في الأغلب، مهندسون وأطباء وفنيون، أي أنهم متعلمون و-إن شاء الله– مثقفون، والأهم أنه من السهل عليهم جداً أن يجدوا لهم فرصاً أخرى لكسب العيش في القطاع الخاص أو حتى خارج الكويت. فلم لا نرى لهم دوراً واضحاً في فضح التجاوزات واقتراح النظم الكفيلة بخلق بيئة عمل أكثر مهنية وأخلاقية؟ أين دور جمعية المهندسين ورابطة الأطباء؟ ما العائق في أخذ دور أكثر فعالية وأوطأ أثراً؟ إن البلدية والصحة مجرد أمثلة تجسد المنطق الغريب الذي يسود تطور المجتمع الكويتي، فالعلم والدين والمؤسسات الدستورية والرخاء الاقتصادي كعوامل كفيلة بخلق شعور وطني وحس أخلاقي رفيع يبدو أن لها تأثيراً عكسياً علينا. فأصبحت الوطنية هي ممارسة «أضعف الايمان» برفض الفساد بالنية أو الانسحاب السلبي من ساحة المعركة. وسُخطت الأخلاق لتتلخص في «البعد عن المنكر» والدين في قول «لا إله إلا الله»!الصلاح والإصلاح يبدآن بأخذ مسؤولية شخصية للتغيير، وبالثقة في أن الطريق القويم هو الطريق الوحيد للنجاح، والإيمان بأن إشعال شمعة خير من لعن الظلام أو إغماض العين، وتفعيل أن الساكت عن الحق «شيطان أخرس»، والمبادرة في أخذ الخطوة الأولى في محاربة الفساد مع الثقة المطلقة في أن هنالك من سيتبع تلك الخطى عاجلاً أم آجلاً، ورفض التنازل عن المبادئ والقيم الأساسية لأن الطريق إلى الفساد وللأسف يبدأ بخطوة.