شجرة الدر... من جناح الجواري إلى عرش مصر
عندما لقي السلطان «الصالح أيوب» ربَّه في ليلة النصف من شعبان (سنة 647هـ) كانت القوات الصليبية تزحف جنوبًا على شاطئ النيل الشرقي لفرع دمياط؛ للإجهاز على القوات المصرية الرابضة في المنصورة، وكانت إذاعة خبر موت السلطان في هذا الوقت الحرج كفيلة أن تضعف معنويات الجند، وتؤثر في سير المعركة.
يذكر التاريخ أن شجرة الدر وقفت موقفًا رائعًا، تعالت فيه على أحزانها، وقدمت المصالح العليا للبلاد، وأدركت خطورة الموقف العصيب، فأخفت خبر موت السلطان، وأمرت بحمل جثته سرًا في سفينة إلى قلعة الروضة بالقاهرة، وأمرت الأطباء أن يدخلوا كل يوم إلى حجرة السلطان كعادتهم، وكانت تُدخل الأدوية والطعام إلى غرفته كما لو كان حيًا، واستمرت الأوراق الرسمية تخرج كل يوم وعليها علامة السلطان. وتولت شجرة الدر ترتيب أمور الدولة، وإدارة شؤون الجيش في ميدان القتال، وعهدت إلى الأمير «فخر الدين» بقيادة الجيش، وفي الوقت نفسه أرسلت إلى توران شاه ابن الصالح أيوب تحثه على القدوم ومغادرة حصن كيفا إلى مصر، ليتولى السلطنة بعد أبيه. وفي الفترة ما بين موت السلطان الصالح أيوب، ومجيء ابنه توران شاه في (23 من ذي القعدة 648هـ = 27 من فبراير 1250م)، وهي فترة تزيد على ثلاثة أشهر، نجحت شجرة الدر في مهارة فائقة أن تمسك بزمام الأمور، وتقود دفة البلاد وسط الأمواج المتلاطمة التي كادت تعصف بها، ونجح الجيش المصري في رد العدوان الصليبي، وإلحاق خسائر فادحة بالصليبيين، وحفظت السلطنة، حتى تسلمها توران شاه الذي قاد البلاد إلى النصر. وبعد النصر تنكر السلطان الجديد لشجرة الدر، وبدلاً من أن يحفظ لها جميلها بعث يتهددها ويطالبها بمال أبيه، فكانت تجيبه بأنها أنفقته في شؤون الحرب، وتدبير أمور الدولة، فلما اشتد عليها ورابها خوف منه ذهبت إلى القدس خوفًا من غدر السلطان وانتقامه. ولم يكتف توران شاه بذلك، بل امتد حنقه وضيقه ليشمل أمراء المماليك، أصحاب الفضل الأول في تحقيق النصر العظيم، وإلحاق الهزيمة بالحملة الصليبية السابعة، وبدأ يفكر في التخلص منهم، غير أنهم كانوا أسبق منه في الحركة وأسرع منه في الإعداد، فتخلصوا منه بالقتل. ولاية شجرة الدر وجد المماليك أنفسهم في وضع جديد، فهم اليوم أصحاب الكلمة الأولى في البلاد، ومقاليد الأمور في أيديهم، ولم يعودوا أداة في يد مَن يستخدمهم لتحقيق مصلحة أو نيل هدف، وعليهم أن يختاروا سلطانًا للبلاد، وبدلاً من أن يختاروا واحدًا منهم لتولي شؤون البلاد اختاروا شجرة الدر لهذا المنصب الرفيع. ويتعجب المرء من اختيارهم هذا، وهم الأبطال الصناديد، والقادة الذين مشى النصر في ركابهم. ولم تكن شجرة الدر أول امرأة تحكم في العالم الإسلامي، فقد سبق أن تولت «رضية الدين» سلطنة دلهي، واستمر حكمها أربع سنوات (634-638هـ/1236-1240م). و«شجرة الدر» من أصل تركي وقيل إنها كانت أرمينية، وكانت جارية اشتراها السلطان الصالح أيوب، وحظيت عنده بمكانة عالية حتى أعتقها وتزوجها وأنجبت منه ولدًا اسمه خليل، توفي صغيرا في (2 من صفر 648هـ = مايو 1250م). أُخذت البيعة للسلطانة الجديدة، ونقش اسمها على السكة (النقود) بالعبارة الآتية «المستعصية الصالحية ملكة المسلمين والدة خليل أمير المؤمنين». تصفية الوجود الصليبي وما إن جلست شجرة الدر على عرش الحكم حتى قبضت على زمام الأمور، وأحكمت إدارة شؤون البلاد، وكان أول عمل اهتمت به هو تصفية الوجود الصليبي في البلاد، وإدارة مفاوضات معه، انتهت بالاتفاق مع الملك لويس التاسع الذي كان أسيراً بالمنصورة على تسليم دمياط، وإخلاء سبيله وسبيل من معه من كبار الأسرى مقابل فدية كبيرة قدرها ثمانمئة ألف دينار، يدفع نصفها قبل رحيله، والباقي بعد وصوله إلى عكا، مع تعهد منه بعدم العودة إلى سواحل الإسلام مرة أخرى. غير أن الظروف لم تكن مواتية لأن تستمر شجرة الدر في الحكم طويلاً، على الرغم مما أبدته من مهارة وحزم في إدارة شؤون الدولة، وتقربها إلى العامة، وإغداقها الأموال والإقطاعات على كبار الأمراء، فلقيت معارضة شديدة داخل البلاد وخارجها، وخرج المصريون في مظاهرات غاضبة تستنكر جلوس امرأة على عرش البلاد.تنازل عن العرش ولم تجد شجرة الدر إزاء هذه المعارضة الشديدة بداً من التنازل عن العرش للأمير عز الدين أيبك أتابك العسكر، الذي تزوجته، وتلقب باسم الملك المعز، وكانت المدة التي قضتها على عرش البلاد ثمانين يومًا. وإذا كانت شجرة الدر قد تنازلت عن الحكم والسلطان رسميًا، وانزوت في بيت زوجها، فإنها مارسته بمشاركة زوجها مسؤولية الحكم، وخضع لسيطرتها، فأرغمته على هجر زوجته الأولى أم ولده عليّ، وحرّمت عليه زيارتها هي وابنها، وبلغ من سيطرتها على أمور السلطان أن قال المؤرخ الكبير «ابن تغري بردي» «إنها كانت مستولية على أيبك في جميع أحواله، ليس له معها كلام». وفاة شجرة الدر غير أنه انقلب عليها بعدما أحكم قبضته على الحكم في البلاد، وتخلص من منافسيه في الداخل ومناوئيه من الأيوبيين في الخارج، وتمرس بإدارة شؤون البلاد، وبدأ في اتخاذ خطوات للزواج من ابنة «بدر الدين لؤلؤ» صاحب الموصل، فغضبت شجرة الدر لذلك؛ وأسرعت في تدبير مؤامرتها للتخلص من أيبك؛ فأرسلت إليه تسترضيه وتتلطف معه، وتطلب عفوه، فانخدع أيبك لحيلتها، واستجاب لدعوتها، وذهب إلى القلعة، حيث لقي حتفه هناك في (23 من ربيع الأول 655هـ= 1257م). أشاعت شجرة الدر أن المعز أيبك قد مات فجأة بالليل، ولكن مماليك أيبك لم يصدقوها؛ فقبضوا عليها، وحملوها إلى امرأة عز الدين أيبك التي أمرت جواريها بقتلها بعد أيام قليلة، وألقوا بها من فوق سور القلعة، ودُفنت بعد عدة أيام.. وهكذا انتهت حياتها على هذا النحو بعد أن كانت ملء الأسماع والأبصار.