Ad

 

في الجزء الأول تناولت مواقف وخلفية عبدالكريم الجندي، الذي كان يشغل منصب مدير الأمن القومي في سورية خلال فترة حكم صلاح جديد الذي اعتقله حافظ الأسد خلال حركته التصحيحية في أكتوبر 1970، فيما أتابع تفاصيل الزيارة التي أرغمت على القيام بها إلى دمشق لمقابلة الجندي بعد صورة التقطت لي في عام 1968 وأنا خلف الدكتور عبد اليافي عندما استدعاه رئيس جمهورية لبنان حينذاك شارل حلو إلى القصر الرئاسي لتشكيل الحكومة الجديدة.

 

وصلت الى مكتب عبدالكريم الجندي مدير الأمن القومي في سورية بالعاصمة دمشق عند الظهر... ذلك المكتب الذي يقع في شارع فرعي ضيق في منطقة ابو رمانة الأرستقراطية والهادئة. في بعض الأحيان، ولأسباب تتعلق بالمزاج الخاص، كان الجندي يقفل هذا الشارع الضيق عدة أيام، ليمنع دخول أو خروج أو حتى المرور لجيرانه سكان ذلك الشارع لأيام طويلة. كان الجندي يقف على الباب الخارجي بانتظاري، لم يرد تحية الصباح التي ألقيتها عليه، سارع بخطى حثيثة إلى الدخول. بعد أن جلس وراء طاولته، قال لي بلهجة تخلو من روح المودة أو الصداقة أو ما بينهما:

أريدك أن تنقل رسالة الى رئيس وزرائكم (......) (استخدم كلمة نابية) اليوم، وإذا تأخرت يكون الأوان قد فات وتتحمل شخصياً مسؤولية ما يمكن أن يحدث، خذ قلماً وورقة.

أعترف أنني لم أصب بالصدمة فحسب نتيجة سماعي كلامه، بل أصبت بنوبة من الذعر ولعنت الساعة التي لبيت فيها نداء الواجب الصحافي، أدرك الجندي، بذكائه المخابراتي تغير ملامح وجهي، فأراد أن يُدخل بعض الطمأنينة إلى المشهد، ابتسم حيث ظهرت من وراء شاربيه الكثيفين بعض أسنانه الصفراء وقال: لو لم أثق بك، لما كلفتك بهذه «المهمة التاريخية». كذلك فأنا أعرف أنك تعمل مستشاراً لليافي، وهذا دليل (دفع الي بصورة صحيفة لبنانية منشور في صفحتها الأولى صورة اليافي وأنا وراءه، يوم نقلته الى القصر الجمهوري لتسلم مرسوم تكليفه تشكيل الحكومة).

قلت: أما فيما يتعلق بوظيفة المستشار، فإنها تهمة لا أنفيها وشرف لا أدعيه. قال: اكتب. هناك زمرة متآمرين سوريين في لبنان مؤلفة من ستة أشخاص أريد أن تبلغ اليافي أن يسلمهم إلينا خلال فترة 24 ساعة، وإذا رفض أبلغه أنني أمرت بتفخيخ شارع الحمراء من أوله إلى آخره، أريد الجواب هذه الليلة وإلا.....

قلت: لماذا، يا ابو حسين، هذا الأسلوب القاسي في التخاطب. هناك ألف وسيلة ووسيلة تجرح لكنها لا تسيل الدماء، لماذا لا نجري معاً تعديلاً في الصياغة مع المحافظة على المحتوى وعلى المعنى.

- ردّ بثبات: أنتم اللبنانيون لا ينفع معكم إلا هذا الأسلوب، اليوم، وغداً، وبعد غد. وهو أسلوب اتفقنا عليه في القيادة القطرية للحزب.

لم ينس الجندي، وهو يرافقني إلى الباب الخارجي أن يقول: أنا بانتظار الجواب، أعذر من أنذر، نحن لا نلعب عندما يتعلق الأمر بأمن سورية القومي.

بصراحة، لم أدر كيف تمكنت من قيادة سيارتي، قطعت المسافة بين دمشق وبيروت في نحو ساعة ونصف الساعة، رغم جوعي الشديد، لم أتوقف في شتورا لشراء ساندويتش، بل تابعت السير رأساً إلى منزل الرئيس اليافي مقابل ميدان سباق الخيل في بيروت.

كانت الساعة تشير الى الخامسة بعد الظهر، وكان دولته مازال في قيلولته، ورغم اعتراضات الحرس والخدم تمكنت من إيقاظه، خرج اليافي من غرفته بلباس النوم مستغرباً وغاضباً في نفس الوقت، سارعت الى القول:

آسف يا دولة الرئيس، الأمر في غاية الأهمية، لقد وصلت لتوي من دمشق، وأنا أحمل لك رسالة من عبدالكريم الجندي، نصّها علي بالحرف وهي في نظري لا تحتمل التأجيل.

قرأت له الرسالة المختصرة مرة، فرّك عينيه، ثم طلب مني قراءتها ثانية، بقي محافظاً على رباطة جأشه بالرغم من احمرار وجهه نتيجة ارتفاع ضغط الدم، ثم غرق في تفكير عميق قطعته بقول إن الجندي ينتظر الجواب هذا المساء، دخل اليافي إلى غرفة نومه الملاصقة للصالون الذي كنت موجوداً فيه، سمعته يتحدث إلى الرئيس شارل حلو، ثم الى جوزيف سلامة مدير الأمن العام حينذاك، ثم خرج وطلب مني البقاء إلى حين وصول سلامة، جاء سلامة مرتبكاً حيث طلب مني اليافي أن أقرأ «رسالة الرعب» المختصرة، وبعد مشاورات قصيرة بين الرجلين، استقر الرأي أن أطلب الجندي على الهاتف وأن أعطيه إلى سلامة، وهذا ما فعلت لكن الجندي، عندما عرف أن سلامة هو الذي سيتحدث إليه، قال صارخاً على الهاتف:

- لا أريد أن أتحدث مع هذا (.....)، قلت لك أن تسلم الرسالة إلى اليافي.

قلت: وهذا ما فعلت، وهو الآن مع جوزيف بك، ويريد أن يتحدث معك أولاً.

سلمت الرئيس اليافي الهاتف رغم انزعاجه من حركتي هذه. فهو كان لا يريد أن يتحدث مباشرة الى الجندي لأسباب لم يوضحها، لكنني وضعته أمام الأمر الواقع لإنقاذ نفسي من المأزق، استغللت فرصة انشغال اليافي بحديثه الهاتفي مع الجندي، وإلى جانبه جوزيف سلامة، وبرشاقة وخفة الفهد... خرجت من الغرفة ومن الدار ومن المشكلة.

في المساء اتصل اليافي بي ليقول لي إن كل شيء على ما يرام، وإنه يعتمد كلياً على أن إحساسي الوطني يتغلب على أمانتي الصحفية، وأن أبتعد عن نشر أي شيء عن هذا الحدث. فوعدته ووفيت بوعدي حتى كتابة سطور هذا المقال.

في اليوم التالي، تابعت بحشرية الصحافي سير الموضوع حيث عرفت أن جوزيف سلامة اجتمع في اليوم التالي لتسلمه الرسالة إلى عبدالكريم الجندي بشكل سري على حدود البلدين، وأنهما توصلا إلى «تفاهم ما»، كما عرفت أن مديرية الامن العام اللبنانية أصدرت قراراً بترحيل ستة لاجئين سوريين عن الأراضي اللبنانية، وأن هذا القرار نفذ في اليوم ذاته.

السؤال الآن: هل كان عبد الكريم الجندي «يبلف» ويمارس التهديد السياسي في أعنف مظهره، أم أنه كان يعني ما هدد به؟

شارع الحمراء خرج سليماً من تلك الأزمة، ولكن ليس لأمد طويل، فقد حدثت أزمات متتابعة، أدّت إلى الحرب الأهلية، وكان في مركز القيادة في دمشق «جندياً» من نوع آخر.

قديماً قيل: إن النمر لا يستطيع أن يغير جلده... حتى لو أراد ذلك.

 

كاتب لبناني