إلى خالد سعود الزيد في ذكراه السادسة
ما أحسب أن ما يجري يخفى عليك وأنت في جوار ربك الكريم؛ ففلسطين شَطرها أهلها إلى فلسطينين، ولبنان مقسوم بين المعارضة والموالاة، ونواب الأمة في بلدنا يقذف بعضهم بعضاً بشر التهم وأسوأ النعوت.
تحل ذكراك السادسة يا معلمي ورمضان في خواتيمه، والعيد على الأبواب، ولست أدري لمَ يُلحّ عليّ خاطر الكتابة عنك في اليوم الخامس عشر من رمضان... هل لأنه ذكرى ميلاد الحسن بن علي عليهما السلام اللذين عشقتهما، وامتلأ قلبك الكبير بحبهما؟ أم لشوق نَزَع بي إلى قراءة كتاب «الشجرة المحمدية»؛ ذلك الكتاب الذي قدّمت له وقمت بتحقيقه وأهديته إلى الإمام الحسن هدية المفتقر إلى عطاء الله الأسنى؟... لست أدري.كل ما أدريه أنني طالعت الكتاب مرة ومرة، وعادت بي الذكرى إلى الرحلة التي قمت بها إلى مدينة فاس في المغرب الأقصى، استأذنتك يومها في نُسخ من الكتاب لأهديها إلى الأشراف الحسنيين في تلك المدينة العريقة، ولست أنسى قولك لي: أبلغ سلامي إلى سيدي عبدالعزيز الدباغ، واقرأ عنده الفاتحة عني، وأذكر أنني تعرفت إلى أحد الأشراف العلويين وأهديته الكتاب، فما كان منه إلا أن أخذ الكتاب ووضعه على رأسه؛ تكريماً له ولشرف موضوعه، منتهى سدرة الإنسان الكامل، وملتقى الدهور والآباد، بكراً يتجدد، وحضورا أبديا لا يبلى ولا ينفد.غَرِقَت في فَضَائِهِ تائِهاتٍمثل قطرٍ لو كان في البحر يبدووأذكر أن هذا الشريف العلوي أخذ مني بعض النسخ، وطاف بها على «الأدارسة» الحسنيين، يوزعها على خدّام المقامات. قلت لصاحبي: لي عندك حاجة أوصاني بها معلمي؛ وهي زيارة مقام سيدي عبدالعزيز الدباغ. فهلّا أعنتني على قضائها؟ أجاب صاحبي: حبا وكرامة. ثم أشار إشارة العارف بدروب المدينة القديمة إلى أن هذا المقام لابد أن يكون خارج أسوارها. بَيْدَ أنه أخبرني بمكان داخل المدينة القديمة يطلق عليه «الزاوية الدباغية»؛ نسبة إلى الشيخ، ولعلنا إذا ذهبنا معا وسألنا أهل الزاوية فسنجد عندهم الخبر اليقين. وقد تم الأمر على ما أشار به، وعَرفْنا من أحد الزهاد في تلك الزاوية أن مقام سيدي عبدالعزيز يوجد على التل المطل على المدينة، وأن أعيننا لن تخطئ المقام لبساطته وظهوره، وذهبنا (أنا وصديقي) وبَلَغْنا المكان، ورأى صديقي العلوي بعض الفقراء ممن يقرأون القرآن فناداهم، وشرعوا يقرأون بصوت جماعي رائع تؤوب معه الجبال والطير. كانت نفحة روحية مهداة إلى صاحب المقام تحية ممن طلب إليّ تبليغ السلام. وكم كانت فرحة أبي سعود رحمه الله حين أخبرته بعد عودتي بما كان من أمري.تُرى لماذا أذكر هذه القصة في ذكرى رحيلك؟ أهو الحسن بن علي وذكرى ميلاده؟ أم كتاب «الشجرة المحمدية» الذي كان هديتك إلى الحسن؟ أم رحلتي إلى فاس مدينة أحفاد الحسن؟ أم رمزية الحسن بن علي رمز الوحدة وحاقن دماء المسلمين؟ ربما كان السبب يا معلمي هو كل ذلك، وما أحسب أن ما يجري يخفى عليك وأنت في جوار ربك الكريم؛ ففلسطين شَطرها أهلها إلى فلسطينين، ولبنان مقسوم بين المعارضة والموالاة، ونواب الأمة في بلدنا يقذف بعضهم بعضاً بشر التهم وأسوأ النعوت، ويتردد صدى أمير الشعراء مجلجلاً في الوجدان:شَبَبْتُم بَيْنَكُم في القُطْر نَـــاراً على أعْدائِنا كانت سَــلاَماإِذَا ما رَاضَها عُقَلاَءُ قَـــوْم ٍ أجَدَّ لها هوى قَوْمٍ ضِــرَامَاها نحن أولاء في هذا البلد الذي أسبغ الله عليه نعمة ظاهرة وباطنة، تمتلئ منا الجيوب فتفرغ منا القلوب، وتشبع الأشباح فتتضور الأرواح، وتمتد العيون وهي تنشد حاقناً جديداً للدماء مثلك؛ كما كنت تجمعنا في مجلسك المبارك الذي يضم شتى الأطياف والأحزاب، ومختلف المذاهب والعقائد، وأصناف الأديان والبلدان، لنكون في هذا المجلس إخواناً على سُرُر متقابلين.أكتب عنك والعيد على الأبواب، وغداً بإذن الله نزور عزيزنا (سعود) ونحيي أرملتك العظيمة لنفطر على مائدتك، كما كان العهد بنا في حياتك، فو الله ما غابت «استكانة» شايك عن أعيننا، ولا ابتسامتك الأبوية التي تحتضن كل محبيك.فالسلام عليك ســـلامــــاً يبقى ما بَقِيَ الدهر ورحمة الله وبركاته.تلميذك - د. علي عاشور