ليست الوحدة شعارات أو تمنيات، بل هي وحدة عملية تتحقق في الواقع ويشعر الناس بآثارها وأهميتها ونفعها وصلابتها، تتحقق بفتح الحدود، ورفع الحواجز الجمركية، وحرية التجارة، وإلغاء تأشيرات الدخول في «شنجن» عربي.إذا كانت القضية الأولى في اليسار الإسلامي هي تحرير الأرض من الاحتلال واستكمال حركة التحرر الوطني، والقضية الثانية هي تحرير المواطن من كل صنوف القهر، والقضية الثالثة هي العدالة الاجتماعية ضد التفاوت الشديد بين الأغنياء والفقراء فإن القضية الرابعة هي وحدة الأمة، عربية أو إسلامية.
فقد قُضِي على الدولة العثمانية وتقطعت أطرافها بعد الحرب العالمية الأولى، وسقطت الخلافة بعد الثورة الكمالية في 1923، ووجد العرب في القومية العربية بديلاً يحميهم من أطماع الاستعمار التي لم تتوقف، ويلم شمل الدول العربية التي تشتت بفعل اتفاقية سايكس- بيكو، ثم انهارت القومية العربية بعد هزيمة يونيو 1967، وانتهى المشروع العربي التحرري القومي إلى احتلال مصر وكل فلسطين وسورية، وبعد أن عادت إليها الروح في حرب أكتوبر 1973 انهارت مرة أخرى بعد غزو العراق لإيران في 1980 في حرب الخليج الأولى، وحدث تناقض بين الثورة العربية والثورة الإسلامية، ثم غزو العراق للكويت في 1990 حرب الخليج الثانية، وحدث تناقض بين القومية والقطرية.
والآن تُـغزى الدول من جديد كما حدث في العراق وأفغانستان، وتُفكك الأوطان كما يحدث في السودان والصومال، وتتحول إلى فسيفساء طائفية عرقية مذهبية، سنية وشيعية وكردية وتركمانية في العراق، وسنية مارونية درزية في لبنان، وسنية شيعية في دول الخليج، ومسلم قبطي في مصر، وعربي بربري في المغرب العربي كله، وعربي أفريقي في السودان، وزيدي شافعي في اليمن، ونجدي حجازي في السعودية، وصومالي سنغالي في موريتانيا، ومغربي صحراوي في المغرب الأقصى. وبالتالي تأخذ إسرائيل شرعية جديدة من طبيعة الجغرافيا السياسية في المنطقة لإقامة دولة قومية يهودية في فلسطين، وطرد أكثر من مليون فلسطيني من عرب 1948، وتمنع أكثر من مليونين آخرين من اللاجئين من نكبة 1948 ونكسة 1967، وتنتهي أي قوة وحدوية في المنطقة، إسلامية أو عربية أو قطرية في الدول التاريخية في المنطقة، مصر والعراق والمغرب، ويقضي على إمكان تكوين قطب إسلامي أو عربي في مواجهة القطب الأول، الولايات المتحدة الأميركية، وإقامة عالم متعدد الأقطاب، فالعولمة ذات اتجاهين وليست ذات اتجاه واحد، توحيد المركز، مجموعة الثماني، الشركات المتعددة الجنسيات، الغرب الصناعي، وتفتيت الأطراف في أفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية كي تبقى سوقا للاستهلاك أو مصادر للمواد الأولية أو العمالة الرخيصة.
وقد ذكر لفظ «الأمة» ومشتقاته في القرآن نحو مئة وثماني عشرة مرة. منها ما يقرب من الثلث بمعنى الأم والرحم، فالأمة بمنزلة الأم، أم الجميع، والثلثان تقريباً بمعنى الأمة، معظمها بالمفرد «أمة» وأقلها بالجمع «أمم»، ومن اللفظ اشتق لفظ «إمام» بمعنى القيادة، والنادر «أمي» بمعنى صاحب العلم الطبيعي الذي لا يأتي فقط من القراءة والكتاب، فمحور استعمالات «الأمة» كفرد نحو النصف.
وهي أمة واحدة، تعبيراً عن الإله الواحد، وانعكاساً لصفة الوحدانية في حياة البشر، «إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ»، وهي أمة مسؤولة عن البشر جميعا، فهي آخر الأمم «فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا». وهي صاحبة رسالة «وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ». وهي رسالة الإله الواحد الذي يتساوى أمامه الجميع، وحدانية البشر، من دون تمييز بين قوة وضعف، كثرة وقلة، لون أو لغة أو دين، أمة تدعو وتبلغ وتبين للناس، وهي رسالة خلقية توحيدية لا تقوم على المعيار المزدوج أو قسمة البشر إلى مركز ومحيط، متحضر وبدائي «رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ». وهي أمة وسطية لا تغالي. تأبى التطرف والغلو «وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا». وهي أمة ملتزمة تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، لذلك كانت خير أمة أخرجت للناس «كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ». هي أمة إبراهيم «إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً». هي أمة في التاريخ لها عمر كالأفراد لا تقلدها غيرها من الأمم السابقة. فالمتقدم لا يقلد المتأخر «إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ»، وبالرغم من أن المسؤولية فردية «وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا»... و«وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ»، إلا أن المسؤولية أيضا جماعية «أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ»... و«كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا»، جزاء التقليد الذي يؤدي إلى الهلاك وعدم تحمّل المسؤولية الجماعية.
ليست وحدة الأمة بالضرورة وحدة سياسية مركزية كما كانت الحال في السابق في الدول الأموية والعباسية حتى العثمانية، فقد كانت الخلافة اسمية، والأمصار مستقلة عنها، أكثر أو أقل، بل هي وحدة الأخوّة والتعاطف المشترك، الوحدة الوجدانية، وهي أيضاً وحدة نسق القيم والمبادئ والتصور المشترك للعالم المستمد من التوحيد، وهي وحدة التضامن الاجتماعي والشعور بالأمة. وهي وحدة المبادئ والغايات، المقاصد والأهداف لتحقيق الإسلام كنظام مثالي للعالم، وبلغة المحدثين هي وحدة الثقافة والحضارة ونسق القيم والتصور للحياة، وهي وحدة الجوار الجغرافي والتاريخ المشترك، وهي وحدة المصالح في الحرية والاستقلال والتنمية والتعاون ضد الأخطار المشتركة، الاستعمار وكل أشكال الهيمنة، والصهيونية كاستعمار استيطاني جديد.
لا تعني وحدة الأمة بالضرورة وحدة سياسية كما كانت الحال عند القدماء في نظام الخلافة بل تعني اللامركزية التي طالما دافع عنها المصلحون، وقد تعني الفدرالية أي سلطة مركزية في الدفاع والخارجية، وسلطات محلية في التنمية والحكم المحلي، جمعاً بين العام والخاص، وقد تكون تعاوناً إقليمياً بين دول الجوار مثل مجلس التعاون الخليجي ومجالس التعاون بين كل دولتين جارتين قريبتين مثل مصر وليبيا، مصر والسودان، مصر والأردن، مصر والسعودية أو بعيدتين مثل مصر وتونس، مصر والجزائر، مصر والمغرب، مصر والعراق، مصر وسورية، فمصر باستمرار هي أحد الأطراف بدلاً من الشكل القديم للوحدة المركزية بقيادة الدولة- القاعدة.
لا تعود وحدة الأمة إلا تدريجياً ابتداء من وحدة الأقطار والحوار الداخلي بين تياراتها المختلفة في جبهة وطنية أو ائتلاف وطني مع اتفاق على الحد الأدنى على البرامج الوطنية، ثم تبدأ وحدة دول الجوار مثل الوحدة المدنية بين الشمال والجنوب، وحدة سياسية في دولة مركزية واحدة، ثم تأتي وحدة مجالس التعاون مثل مجلس التعاون الخليجي كنوع من الفدرالية، ثم تأتي مجالس التنسيق والتعاون بين دولتين، قريبتين أم بعيدتين كما تفعل مصر، ثم تأتي الوحدة الإسلامية في النهاية، في صورة عالم إسلامي متفق في الأهداف، يكوّن كتلة تاريخية كبيرة مثل باندونج، العالم الثالث، عدم الانحياز، دول القارات الثلاث.
ليست الوحدة شعارات أو تمنيات، بل هي وحدة عملية تتحقق في الواقع ويشعر الناس بآثارها وأهميتها ونفعها وصلابتها، تتحقق بفتح الحدود، ورفع الحواجز الجمركية، وحرية التجارة، وإلغاء تأشيرات الدخول في «شنجن» عربي. فالعرب يتمتعون بالشنجن الأوروبي، ويمنعون بالساعات في مطاراتهم أو يُرحّلون حيث أتوا حرصاً على الأمن، وقد كانت السوق العربية المشتركة في أوائل الخمسينيات أسبق من السوق الأوروبية المشتركة، وقد تستطيع معاهدة الدفاع العربي المشترك أن تمنع غزو الأقطار، واحداً تلو الآخر كما حدث في العراق وفلسطين. قرارات كثيرة وإنجازات قليلة، كلام كثير وأفعال قليلة «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ، كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ».
* كاتب مصري