ليسمح لي القارئ أن يكون المقال اليوم مصرياً خالصاً عن «حدوته مصرية» تتكرر منذ أواخر الثمانينيات وتدور باختصار حول أحد النصابين الذي يستغل حاجة المواطنين للاستفادة من أموالهم التي جمعوها خلال سنوات طويلة من العمل والشقاء وقلة حيلتهم في استثمارها وجهلهم بقوانين السوق وألاعيب التجارة، فيستغل كل ذلك ويتمكن من جمع أموالهم (في حدوتتنا أكثر من 2 مليار جنيه) ثم يفر بها خارج البلاد... وهذه «الحدوتة» تتكرر كما قلت منذ الثمانينيات وبدايتها كانت مع شركات توظيف الأموال «الريان- الشريف... إلخ» ثم استفاد النصابون من التجربة الأولى وأصبحت الأموال تُجمع من خلال أفراد من دون إعلان ولا مقار للشركات، واستفاد المواطنون وعمدوا إلى تقوية الضمانات عند تسليمهم الأموال، فتحولت من عقود مشاركة إلى إيصالات أمانة في «حدوتتنا» الحالية، وبالرغم من تأمين المواطنين لأموالهم من خلال تلك الإيصالات إلا أن النصاب -وكالمعتاد- كان أكثر ذكاء فسعى إلى بناء أساس قوي من الثقة لدى المواطنين، واستمر ملتزماً بدفع الأرباح طوال أكثر من 5 سنوات (كما ذكر بعضهم في حوار تلفزيوني) فتمكن خلال تلك الفترة -الطويلة نسبياً في عالم النصب- من إقناع الكثيرين من المترددين والمتشككين من معارف وأصدقاء المودعين فبادروا أيضاً إلى تسليم أموالهم (فزادت الغنيمة على المليارين) وقام النصاب –لكسب المزيد من الثقة- برد أي مبلغ يطلبه صاحبه طوال تلك السنوات.

Ad

وفي «حدوتتنا كذلك عمد النصاب إلى البناء الهرمي في الحصول على المال فجعل من نفسه قمة الهرم ويليه مجموعة من الوسطاء الذين يتصلون بالمودعين الصغار لجمع أموالهم وإعطائهم إيصالات الأمانة بينما يكون تعامله هو شخصيا مع هؤلاء الوسطاء فقط وإعطائهم هامش ربح أكبر قليلا مما يعطونه لصغار المودعين –كما ذكر أحدهم في البرنامج التلفزيوني- ونجح في ذلك إلى حد بعيد وبالتالي قام وبلغة السوق بتصدير المشاكل في حال حدوثها (وهو ما حدث فعلاً) إلى هؤلاء الوسطاء فلو افترضنا أن كل وسيط كان مسؤولا عن 50 شخصاً فقط فإن نصاب «حدوتتنا» يكون قد نجح في تخفيض القضايا المرفوعة ضده بنسبة 50% أي أنه وباللغة الجاهلية نجح في تفريق دم المودعين بين الوسطاء فتاهت أموالهم وتبخرت أحلامهم، وكل ذلك من خبرة التجارب السابقة التي استفاد منها نصاب «حدوتتنا» وجعلته أيضا يختار معظم وسطائه من أقاربه وأصدقائه، حيث يمكنه الاستفادة من الحرج الاجتماعي في حال حدوث المشاكل.

ولكن الملاحظة الجديرة بالنقاش في «حدوتتنا» هي تحول الدين من عقيدة إلى عادة، فكما هو معلوم أن أساس الدين هو العقيدة، والعقيدة الإيمانية هي عقيدة التوحيد التي تشهد «أن لا إله إلا الله، وأنه لا شريك له في حكمه، وأنه وحده الواحد القادر، وهو العاطي المانع، وهو الضار النافع، وأنه في كل مكان وزمان يراقب الإنسان، ويراقبه المؤمن فيبتعد عن الكذب والغش والنصب والخداع...» هذه هي العقيدة الإيمانية التي تعتبر العبادات مظاهر لهذه العقيدة، فالصلاة والصوم والحج... إلخ هي مظاهر وسلوك يلتزم بها المؤمن، وهذا هو الدين كما نعرفه، ومع اعتراف المودعين بأن نصاب «حدوتتنا» كان دائم المحافظة على الصلاة في مواقيتها ويؤدي العمرة والحج كل عام، أي أنه ملتزم بكل مظاهر العقيدة كما أن زوجته –كما ذكر بعضهم- مريضة بمرض عضال يحتاج مع علاج الأطباء ومهارتهم إلى دعوته سبحانه وتعالى، والالتجاء إليه والتقرب منه، أملاً في شفائها، وإذا كانت الحال كذلك، فكيف يمكن لبطل «حدوتتنا» أن يخدع المواطنين ويغشهم ويكذب عليهم إلى هذه الدرجة؟!

إن التفسير البسيط لما حدث من دون الدخول في النوايا التي لا يعلمها إلا الله يؤكد عمق الظاهرة التي بدأت في الانتشار بين المسلمين عموماً، وفي مصرنا الحبيبة خصوصاً، وهي تحول الدين من عقيدة إلى عادة، وأصبح المسلمون يؤدون فروضهم وعبادتهم كعادة اعتادوها، وليس كعقيدة اعتنقوها، وهنا خطأ الآباء والكبار الذين حرصوا على تعليم الصغار العبادات وسلوكيات العقيدة من صلاة وصيام وعدد ركعات وزمن صيام ووقته من دون الحديث والشرح عن جوهر العقيدة الإيمانية... وكل هذا جزء من كل أدى إلى ظهور نصاب «حدوتتنا».

والملاحظة الأخيرة هي: هل يملك نصاب «حدوتتنا» قدرة سيدنا سليمان فيصفق بيديه كي تطير الأموال (أكثر من 2 مليار) من البنوك المصرية وتستقر في الخارج؟ وهل تم هذا في لحظة بفعل الجان أم تم من خلال تحويلات بنكية تحت سمع وبصر رجال البنوك ومديريها ونيابة الأموال العامة؟ وبافتراض حسن النية هل يمكن مثلا لأفراد آخرين ينتمون إلى جماعة سياسية محظورة القيام بمثل هذه التحويلات بهذه السهولة والسرعة؟! أم أن الرقابة فقط على أفراد من دون غيرهم وإذا كان تسليم المواطنين مالهم لهذا النصاب هو مسؤوليتهم الكاملة فهل تهريب الأموال إلى الخارج أيضاً مسؤوليتهم؟ وهل استرداد إيصالات الأمانة أيضاً مسؤوليتهم؟! أم أن «الحدوتة» باختصار فساد يؤدي إلى فساد؟!

وفي النهاية أقول للمواطنين الذين خسروا أموالهم وخسروا قبلها ثقتهم في بلدهم: ما تعلمناه قديماً «لا تقل خانني الأمين ولكن قل ائتمنت الخائن».