خلال فترة تجاوزت الثلاثين عاماً، استطاع الصحافي علي بلوط أن يكوّن علاقات وثيقة مع أوساط النظام «البعثي» على مختلف مستوياته، واستطاع تكوين علاقة شخصية مباشرة مع رئيس النظام العراقي السابق صدام حسين، الى درجة ان البعض كان يعتبره عميلا لـ «البعث» العراقي، حتى أنه كان يحمل جوازاً عراقياً دبلوماسياً، حيث ذُكر في خانة المهنة «مستشار في ديوان الرئاسة».

Ad

مكّنت هذه العلاقة الغريبة بلوط من ان يكون مرافقاً ومطلعاً على الكثير من الأحداث وخفاياها، وربما مشاركاً في صنع بعضها. وكانت لديه علاقة حميمة مع نائب رئيس وزراء النظام طارق عزيز، وربما أكثر حميمية مع عدد من أركان المخابرات العراقية.

ويتناول الكتاب الدور الذي اضطلع به بلوط عن قصد أو غير قصد في نقل رسائل مهمة بين الولايات المتحدة الاميركية وصدام حسين خلال غزوه واحتلاله الكويت، وهي معلومات تنشر لأول مرة وتلقي الضوء على خفايا وملابسات غزو الكويت وتداعياته.

ويروي الكاتب كيف تلقى اتصالاً مفاجئاً من روبرت بير، عميل وكالة الاستخبارت الأميركية (سي آي إيه) في باريس، طالباً منه في الايام الاولى للغزو ان ينقل عرضاً أميركياً لصدام حسين مقابل انسحابه من الكويت، فقام بمهمات مكوكية بين بغداد وواشطن، وذلك في الفترة التي اشتعلت بها الازمة. وتثير التفاصيل التي يعرضها الكاتب الكثير من التساؤلات حول مكامن الاحداث التي كانت تجري في أروقة السياسة الدولية.

يعرض الكتاب كيفية وصول صدام حسين الى السلطة واسلوبه في الحكم من خلال إبعاده وتصفيته لخصومه، حتى استحق لقب «المتآمر الأول» وهو لقب كان يفرح به.

كما يعرض كيفية واسباب اغتيال عبد الرزاق النايف، أول رئيس وزراء عراقي بعد انقلاب 17 يوليو 1968، في لندن، ثم تدهور العلاقات بين لندن وبغداد على خلفية محاولات صدام إطلاق سراح احد القتلة الذي تم القبض عليه، ورفض مارغريت تاتشر اي صفقة للإفراج عنه. ويتحدث بشيء من التفصيل عن اسباب تحول فرنسا وسياستها الى المحطة الاهم بالنسبة لصدام، مبدياً كيف ان الافراط والتمادي في «شراء» ودّ الساسة الفرنسيين أدى الى تغير موقف باريس.

ويتناول منظور صدام لعلاقته مع الولايات المتحدة القائمة على مفهوم «الاشتباك عن بعد»، والمليئة بعدم الثقة وحتمية المواجهة، وكيف بذل صدام محاولات لفتح خطوط اتصال مع واشنطن.

ويدخل الكاتب الى الموضوع الرئيس من خلال المحاضر العراقية للقاء صدام حسين مع السفيرة الاميركية ابريل غلاسبي قبيل غزوه للكويت، ويخلص الى ان تلك المقابلة كانت بمنزلة «قشرة الموز التي وضعها صدام عمداً أمام قدميه ليتزحلق بها».

ويسرد تفاصيل العرض الذي طلبت الاستخبارات الأميركية منه ان ينقله الى صدام مقابل انسحابه من الكويت، والذي يتضمن «دفع الكويت قيمة النفط المسحوب وتأجير جزيرة بوبيان لمدة عشرين سنة»، مبيناً كيف ان صدام رفض ذلك العرض، وقدَّم بالمقابل عرضاً للولايات المتحدة بضمان مصالحها في المنطقة.

ويذكر المحاولات الدولية لإقناع صدام بالانسحاب من الكويت، والتي باءت بالفشل الى ان قامت «عاصفة الصحراء» بطرد صدام من الكويت في فبراير عام 1991.

الحلقة الأولى

ينطلق بلوط في كتابه عبر تبيان علاقته بالعراق، ويتناول بالتحديد أول لقاء جمعه برئيس النظام العراقي السابق صدام حسين في العام 1971.

ويذكر اولاً خلفية هذه العلاقة، حيث تعرَّف على العراق في العام 1960، عندما كان يعمل محرراً في جريدة «الأنوار» اللبنانية ذات الميول الناصرية في ذلك الوقت. وزار بغداد في حينها للمرة الاولى لإجراء حديث مع عبد الكريم قاسم في وزارة الدفاع العراقية، حيث كان يقيم قاسم.

ثم عاد الى بيروت وكتب مقالا بعنوان: «هل عبد الكريم قاسم مجنون أم عبقري؟». وخرج بنتيجة ان قاسم كان مجنوناً، مما دفع أجهزة الاعلام العراقية الى شن حملة عليه متهمة إياه بأنه عميل ناصري وجاسوس مصري. وبالطبع وضع اسمه على اللائحة السوداء.

ويقول الكاتب «اكتشفت فيما بعد ان هذه الحملة الصحفية كانت بمنزلة حجر الأساس في بناء سمعتي في الوسط السياسي العراقي ابتداء من النظام البعثي الاول، الذي قلب نظام حكم قاسم في العام 1963، الى مرحلة عبد السلام عارف (الذي انقلب على البعثيين)، الى أخيه عبد الرحمن عارف الذي أزاحه صدام والبعثيون في العام 1968».

ويشير الى انه كان ضمن الوفد الاعلامي الرسمي العراقي أثناء زيارة عبد الرحمن عارف لفرنسا واجتماعه بالرئيس الفرنسي شارل ديغول، لبناء جسر بين فرنسا الديغولية والعراق العربي، بعد هزيمة العام 1967 في حرب الأيام الستة مع اسرائيل، وذلك بناء على طلب الرئيس المصري جمال عبد الناصر وتحت إشرافه الشخصي. والتقى عارف خلال توجهه الى باريس ثم بعد عودته لها، عبد الناصر مرتين لإبلاغه بنتيجة الاجتماع مع ديغول.

وحضر الكاتب جزءاً هامشياً من هذين اللقاءين. ثم بعد عودته الى بغداد في الطائرة الرسمية بأيام قليلة، أطاح البعثيون، بقيادة اللواء أحمد حسن البكر ومشاركة صدام حسين، بنظام عارف في أول انقلاب غير دموي في 17 يوليو من العام 1968.

وساعد في الانقلاب كل من رئيس المخابرات العسكرية عبد الرزاق النايف وقائد الحرس الجمهوري ابراهيم الداوود، اللذين تمت تصفيتهما فيما بعد جسدياً: الاول في بغداد والثاني بعد عدة سنوات في فندق «الانتركونتيننتال» في لندن.

وكتب بلوط سلسلة مقالات دفاعاً عن عارف، حيث قال «لم أؤيد الاسلوب البعثي الخياني في التعامل مع اصدقائهم ومع أعدائهم بنفس الطريقة والاسلوب. فالحزب أرسى قواعد (العنف الثوري) في تعامله السياسي. وفي هذا المجال، فإن الاسلوب البعثي لم يكن يختلف عن الاسلوب الشيوعي».

اللقاء الأول مع صدام

في العام 1970، ترك الكاتب العمل في «الأنوار» حيث أسس مجلته الاسبوعية «الدستور». كانت مواضيع المجلة مثيرة للجدل وجلبت لصاحبها أحكاماً بالسجن عدة مرات. وطال الأسلوب اللاذع صدام التكريتي (كان يسمى هكذا)، كما طال الملك السعودي فيصل بن عبد العزيز والزعيم الليبي معمر القذافي والملك الاردني حسين والرئيس المصري أنور السادات. غير ان صدام لم يتقدم بدعوى قضائية، مثلما فعل الآخرون، بل أرسل وزير اعلامه شفيق الكمالي الى بيروت لاقناع الكاتب بزيارة بغداد التي تعرف مواقفه جيداً. واشترط ان يقابل صدام شخصياً، ووافق الكمالي على هذا الشرط.

«طرت الى بغداد كضيف للحكومة ونزلت في فندق بغداد. وزيادة في التكريم، رافقني في اليوم التالي، الوزير الكمالي شخصياً لمقابلة صدام لأول مرة في مبنى المجلس الوطني الواقع على ضفة نهر دجلة. وحرصت قبل ان أدخل الى غرفة صدام أن أزيل ما امكن من بقع الطين التي علقت بحذائي وبالجزء الاسفل من بذلتي نتيجة الأمطار الغزيرة التي هطلت في ذلك اليوم».

يذكر الكاتب لقاءه الاول مع صباح ميرزا، قائد الحرس الخاص لصدام، الذي أدخله مع الكمالي الى مكتب «السيد النائب» وهمس في أذنه ان وقت المقابلة حدد بنصف ساعة، ثم همس في أذن الكمالي بصوت سمعه الكاتب «السيد النائب يرغب في ان يلتقي الاستاذ منفرداً».

«... وعلى الرغم من محاولة اخفائها، فإن علامات الاستهجان بدت على وجه الكمالي، لأن المفروض ان يحضر وزير الاعلام المقابلات الصحفية، لكن الكمالي سارع بالوقوف والخروج بعد ان أدى التحية الحزبية لصدام».

ويذكر بلوط تفاصيل هذا اللقاء:

«عندما دخلت الى مكتبه الواسع، كان صدام يجلس وراء طاولة عريضة، فتقدمت منه بخطوات سريعة وأنا أمدّ يدي للمصافحة، فسارع هو الى الخروج من وراء المكتب لملاقاتي في منتصف الطريق. هذه الحركة أدخلت بعض الطمأنينة الى نفسي. بعد تبادل التحيات، لاحظت ان صدام يحرص على ان ينظر الى عيني بشكل مباشر، وأدركت انه يحاول أن يقرأ ما في ذهني، وأن يفرض سيطرته على الجو. وكنت على حق. فهذا هو أسلوب صدام. هو يعرف ان له عينين نافذتين تثيران الرعشة والرعب في القلوب وفي الاعصاب، وهذا واحد من أسلحة صدام الكثيرة، وصدام شغوف في ان يستخدم كل ما لديه من أسلحة كل الوقت. قررت ان ألعب نفس اللعبة فرحت، أثناء حديث المجاملة، أنظر الى عيني صدام مباشرة وهكذا دخلت الصراع الاول مع الرجل الذي حكم العراق 35 سنة من خلال انقلاب لم يقتل فيه سوى جندي واحد عن طريق الخطأ، وترك الحكم مخلفا ملايين القتلى.

... كانت بعدها قواعد هذا الصراع، حسب اعتقادي، من يرمش أولاً يخسر أولا. وكنت انا أول من رمش وذلك بعد لحظات من التحديق والتحديق المتبادل، رسم صدام على وجهه ابتسامة طفولية، فاستسلمت ورمشت واتسعت ابتسامة صدام. هكذا كان يفعل كلما ربح معركة.

بعد تناول رشفة اولى من الشاي العراقي، ركز صدام نظرته الى عيني ثانية بشكل قاس ٍقبل ان يُطلق تعليقه الاول من دون ابتسام: يقولون عنك انك غير منضبط. إذن معركة السيطرة قد بدأت وهذا السؤال يشكل التحدي الاول. إما ان أقبل التحدي أو انسحب من المعركة. واخترت القبول وقلت: سيدي النائب عن أي انضباط تتحدث؟ لم أنتظر جوابه، سارعت الى الاستطراد: إذا كنت تعني الانضباط الحزبي، فأنا لم أصل الى هنا راسماً على جبهتي شعار حزبكم «وحدة حرية اشتراكية». لكن اذا كنا نتكلم عن الانضباط المهني، فأنا من المؤمنين بأن المفتاح الرئيس للنجاح في أي مهنة هو الانضباط تجاه قول الحقيقة. وهذا هو انضباطي سيدي النائب. رد، بعد ان عاد شبح ابتسامة الطفولة الى وجهه: أرجو ان انضباطك المهني لن يدفعك الى نشر حديث هذه المقابلة. ثم استوى قليلاً على كرسيه وتابع: الحقيقة انني رغبت في معرفتك شخصياً. لقد سمعت وقرأت الكثير عنك و...

لم أستطع منع نفسي من مقاطعته فقلت سيدي النائب: أتمنى ان يكون ما سمعته عني جيداً، مع انني أعترف بوجود جوانب سيئة في شخصيتي.

هذه المرة منحني ابتسامة عريضة مصحوبة بقهقهة هزت قليلاً كتفيه الاثنين. هكذا هو صدام، كما خبرته لاحقاً، فهو يقهقه بكتفيه، عندما تكون هذه القهقهة نابعة من القلب، لا تمثيلاً او اصطناعاً. ثم غرقنا في الحديث عن الاوضاع العربية خاصة الوضع في لبنان. خلال الحديث نظرت الى ساعتي لأعرف اذا كنت مازلت ضمن نصف الساعة الذي حدده صباح ميرزا. لاحظ صدام حركتي فسألني: هل عندك موعد آخر في بغداد. قلت: وهل هناك من هو أكبر من صدام التكريتي في بغداد؟ نظرت الى الساعة لأنه طُلب مني ان لا أبقى اكثر من الوقت الذي حُدد لي للمقابلة، وأنا كما تعرف الآن منضبط مهنياً.

في هذه اللحظة دخل ميرزا الغرفة، فأشار اليه صدام بالخروج بحركة من يده. ثم التفت إليّ وقال: لك ما تريد من الوقت ضمن ما اتفقنا عليه حول عدم النشر.

دخلت أكواب الشاي مجدداً ثم عدنا الى الحديث عن الوضع العربي ووجدت الفرصة سانحة لأسأله: سيدي النائب، أنت تدرك الآن صعوبة حكم الشعب العراقي. فتاريخ هذا الشعب يثبت، مرة تلو الأخرى، انه كالحصان الجموح. ما هي خططك لترويض هذا الحصان؟ صمت لبرهة حيث غرق في تفكير عميق قبل ان يرد: أخالف الحقيقة إذا قلت ان الشعب العراقي مطواع كغيره من الشعوب العربية التي تسهل عمليه حكمه و...

قاطعته مرة أخرى، لأني وجدت ان نافذة عقله باتت مفتوحة، وأردت معرفة رأيه بالشعوب العربية، وقلت: أي من الشعوب العربية تعتقد انه مطواع اكثر من غيره؟ رد بسرعة: المصريون، ألا تعتقد ذلك؟ قلت: ربما، لكنني أفضّل ان أستخدم كلمة (صبور) بدلاً من مطواع. رمقني صدام هذه المرة بنظرة باردة ثم هز رأسه. ولم أعرف اذا كان قد وافقني الرأي أم لا. هزة الرأس لا تعطي جواباً شافياً. ثم بادرني بالهجوم، فقال: لقد قرأت مقالك في مجلتك وعنوانه: التكارتة... العائلة المالكة الجديدة. لماذا كتبت ذلك مع انه مخالف لكل جوانب الحقيقة.

هناك وقت للمشاكسة ووقت للدبلوماسية. وفي هذه اللحظة حان وقت الدبلوماسية، فقلت: سيدي النائب، أنا لا أتعدى في كتاباتي حدود قناعاتي، ولا أدّعي ان قناعاتي كلها صحيحة. كلي استعداد لتصحيح الخاطئ منها. ولهذا السبب أنا موجود هنا في بغداد. لم يتأخر في الرد. قال بحدة يشوبها الهدوء: ان ما كتب كله خطأ ويجب تصحيحه. ان حزبنا قاتل بشراسة الملكية والحكم الفردي وأزالهما من الوجود. هذه حقيقة تاريخية. والحقيقة الثانية ان حزبنا يدعو وبإصرار شعبنا العربي من المحيط الى الخليج للوحدة والحرية والاشتراكية. وهذا واقع لا يمكن تغييره. وكل ما يقال عن حزبنا عكس ذلك نعتبره اعتداء مقصوداً على حزبنا وعليّ شخصياً وهو لا يخدم إلا أعداء أمتنا.

لقد وضعني صدام بزاوية ضيقة عليّ ان أهرب منها وبسرعة، والاسلوب الوحيد للهروب هو تغيير نمط الحوار. قلت: سيدي النائب، الصحافيون هم بشر. والبشر يخطئون، والاعتراف بالخطأ فضيلة وأنا من المؤمنين بالوحدة العربية على الرغم من أنني لست عضواً في حزب البعث و...

قاطعني قائلاً: ليس من الضروري أن تكون بعثياً كي تؤمن وتعمل من أجل الوحدة. نحن نعتبر كل عربي وحدودي بعثياً ولكن على طريقته الخاصة. إذن أنت بعثي.

التقطت حبل الخلاص الذي رماه لي بسرعة، وقلت: ولكن على طريقتي الخاصة. فردّ: نعم. دون شك. قلت: هل تسمح لي بالاحتفاظ بهذه الطريقة الخاصة مستقبلاً؟ جوابه كان ابتسامة عريضة شاهدت من خلالها لمعة الرضا في عينيه. ثم تبعها بضحكة عالية شاركته بها لعدة ثوان. ثم راح يتحدث بتفصيل عن الأحداث التاريخية وعن مستقبل الأمة العربية في إطار الوحدة الشاملة. وخلال حديثه برز بوضوح طموحه الرومانسي في أن يكون زعيم دولة هذه الوحدة. وتكرر على لسانه ذكر صلاح الدين الأيوبي (محرر القدس من الصليبيين في القرن الثاني عشر) أكثر من مرة. لم أسمعه، خلال محاضرته القصيرة، يذكر اسم النبي العربي أو أي من خلفاء وأبطال المسلمين التاريخيين مرة واحدة.

... كان الوقت ظهرا عندما انتهت المقابلة. رافقني صدام إلى باب غرفته المتصلة بصالون كبير يغص بالزوار المنتظرين. لمحت من بينهم طارق عزيز الذي كنت أعرف صورته سابقاً. قال لي صدام وهو يشد على يدي مودعاً: سنلتقي مرة أخرى قبل سفرك. وفي رحلة العودة إلى الفندق سألني الوزير شفيق الكمالي إذا كنت قد فزت بحديث صحفي ضخم، فقلت نعم ولكنه ليس للنشر».

صداقة... ثم رابطة عائلية

يتحدث الكاتب عن لقاء ثان مع صدام بعد ثلاثة أيام من اللقاء الأول، في مطعم «نادي الصيد» في منطقة المنصور ظهر يوم جمعة، وهو النادي المخصص لكبار الحزبيين ومسؤولي الدولة حيث قدمه إلى شقيقه من أمه، برزان، الذي كان يشغل منصب نائب رئيس جهاز المخابرات في ذلك الوقت.

«كنا ثلاثة فقط حول مائدة الطعام وعيون الحاضرين في النادي شاخصة الينا. كان صدام يسأل وأنا أجيب وبرزان صامت كأبي الهول يحاول تعريتي بعينيه الصغيرتين ونظراته الثاقبة. الحديث دار بمعظمه حول دور الصحافة في العراق وفي العالم العربي، وكيف باستطاعتها أن تقوم بواجب خدمة وطنها. كان رأيي أن الصحافة، إذا أحسنت القيام بدورها، تستطيع أن تكون السند الرئيس للنظام حتى ولو كان اشتراكياً. ولكي تحسن القيام بهذا الدور عليها أن تكسب ثقة القارئ المواطن. ومن أجل الحصول على هذه الثقة فمن واجب الصحافة أن تعطي الصورة للقارئ بالأسود وبالأبيض. لا تلوين دعائيا ولا مديح يساعد في إصابة الحاكم أو المسؤول بعمى الألوان ويرفعه خطوة خطوة الى مصاف الآلهة. هذا الدور لا تستطيع الصحافة، خاصة في عالمنا الثالث أن تقوم به من دون مساعدة الحاكم وتشجيعه على المضي في طريق احترام العقول لا غسلها، وبالتالي تزويدها بحقائق الأمور لا الحقائق التي يريدها، وبالتالي منحها هامشاً لتصبح وسيلة اتصال نظيفة بين الحاكم والمواطن. كذلك أعتقد أن وظيفة الحاكم أي حاكم هي في تأمين الحاجات الأساسية والضرورية لشعبه. والقيام بهذا الواجب يستأهل من قبل الصحافة التنويه، لا التطبيل والتزمير. وإذا تأمنت هذه العناصر وغيرها، عندئذ ٍتصبح الصحافة أداة صالحة لبناء جسور الاتصال بين الحاكم وبين المحكوم.

كان صدام يستمع، وكله أذان مفتوحة وكذلك برزان، واردت أن اختم كلامي بجملة قصيرة، فقلت: الزهرة تحتاج إلى الماء والهواء والشمس. كذلك الصحافة تحتاج إلى الحرية والحرية ثم الحقيقة. بامكان الحاكم ايجاد الصيغة لأحداث توازن بين منح هذه الحرية وبين مصالح الدولة بحيث لا يموت الذئب ولا يفنى الغنم، كما يقول المثل اللبناني. وهذه الصيغة ليست اختراعاً جديداً. إنها موجودة ويمكن، بعد العثور عليها، تطويرها بحيث لا تكون شبيهة بصحافة العالم الغربي الفوضوية، ولا بصحافة العالم الثالث التي تساعد الحاكم على الانتقال من حالة النصف إله إلى حالة الإله الكامل.

كنت أتحدث بحماس هادئ يدلّ على مدى قناعتي الكاملة بكل ما أقوله، لعله يدخل الآذان ثم العقول ثم يترجم الى سيرة وتقليد. لكن الأيام التي قضيتها برفقة صدام ونظامه أثبتت العكس. فالآذان كانت كبيرة ومفتوحة على مصراعيها، وجاهزة للاستماع في كل ساعة، بل في كل لحظة، ولكن لغاية الحفاظ على النظام، بينما بقيت أبواب العقل مغلقة إلا على ما تُطرب لسماعه.

عند انتهاء الغداء سمعت صوت برزان لأول مرة يقول لي وهو يصافحني: سنلتقي ثانية بإذن الله. وفي اليوم التالي، زارني برزان في فندق بغداد وأعطاني ورقة صغيرة كتب عليها رقم هاتف محلي قال إنه رقم صدام المباشر، وإن باستطاعتي استخدامه في أي وقت خلال وجودي في بغداد. ولم ينسَ برزان أن يعطيني، هو الآخر رقم هاتفه الخاص. وهكذا بدأت علاقة تحولت الى صداقة ثم الى رابطة عائلية. بين زوجتي وزوجة برزان استمرت منذ ذلك العام 1971 وانتهت بغزو العراق 2003 ثم القبض على برزان وإعدامه.

إن تأثير الغداء الثلاثي في نادي الصيد سرعان ما أعطى مفعوله الإيجابي بالنسبة لي. لقد أصبحت نجماً من نجوم المجتمع السياسي في العراق. ومنذ ذلك الوقت فتحت أمامي جميع الأبواب. فهل هذا ما قصده صدام من خلال دعوة الغداء العلنية؟».