تتدرج وظائف البحث العلمي من جمع المتفرق إلى ابتكار الجديد، وبينهما مراحل عدة، منها اختصار المسهب، وتفصيل المختصر، وتجلية الغامض، ونقد السائد. ويتوزع الباحثون على هذه الوظائف جميعا، بعضهم يبدأ بالأقل ويجتهد في مسيرته فيرتقي على سلم العلم، ليصل إلى النقطة أو الدرجة، التي يؤهله لها تحصيله المعرفي، وانضباطه المنهجي. وبعضهم يكتفي بالدرجات الأقل، إما لثبط في الهمة وإما لقلة في الطموح أو لظروف اجتماعية مختلفة عالجها «علم اجتماع المعرفة» بصور وأشكال شتّى. وآخرون يصعدون السلم في دأب وإصرار وإيمان لا يتزعزع بأن لكل مجتهد نصيبا. ومن بين هؤلاء جميعا هناك من يعرف قدر نفسه فيرحمها، وهناك من يدّعي لها ما ليس فيها فيعذبها.

Ad

والصنف الأول يقل مع مرور الزمن في بلادنا، متأثراً بالتردي العام في الأخلاق، وتراجع قيمة العلم والعلماء، مع سيطرة المعايير المادية لتقييم البشر، وقياس موقعهم في الحياة. أما الصنف الثاني فتعج به المؤسسات المنوط بها إنتاج المعرفة، فيظن ناقلو المعرفة أنهم منتجون أصلاء لها، ويعتقد حاملو القشور أنهم يقبضون على اللباب، ويظن من يدورون في فلك الحواشي أنهم منغمسون من الاقدام إلى النواصي في المتون العامرة بالمعرفة العميقة الخالصة.

ونظراً إلى أن هذا الصنف ممن يحسبون على العلماء والباحثين لا يمتلك أصحابه الموهبة الحقيقية، التي يحتاج إليها العلم والمشتغلون به، فإنه يسعى إلى تنمية المواهب الأخرى، المستعارة من الأسواق وبلاط السلاطين وعلب الليل الحمراء، فيجيدون النفاق والرقص على الحبال، ويتعلمون فن التحايل والتملق والتمركز حول المنافع الذاتية، ويمتلكون مهارات المراوغة والخسة والهروب في لحظات الجد، التي ينسى فيها المخلصون مصالحهم لحساب المصلحة العامة. وحين يفسد المجتمع يصبح هؤلاء الأعلى صوتاً والأرفع مكانة والأغنى مالاً، فيجرفون في زحفهم المتجبر إلى جني الغنائم الطابور الضعيف الواهن من العلماء الحقيقيين.

ويتفرع من الصنف الأخير فرعان، الأول يستسلم أصحابه لقدرهم، فيواصلون العمل في المؤسسات الفاشلة، التي لا تقدر قيمتهم، ولا تعترف بعلمهم، وتُمارس عليهم ألوان شتى من القهر. ومرد هذا الاستسلام إما لغياب الفرصة البديلة، وإما لافتقاد الروح المغامرة، أو عدم تسرب الأمل في إمكان الخروج قريبا من هذا النفق، لتعود الأمور إلى نصابها. وقد يظل هؤلاء في مكانهم مخلصين للانتظار حتى تشتعل رؤوسهم شيبا، وقد يفارقون الدنيا دون أن ينتهي هذا النفق الطويل، أو ينبلج فجر أحلامهم من طيات الظلام. أما الفرع الثاني فأصحابه يمتلكون قلوباً جريئة ونفوساً متمردة، ورغبة أصيلة في تغيير الأوضاع المقلوبة، وتصحيح الأمور المعوجة، والانتصار للعدل، مهما كلفهم هذا من عناء، ويفكر هؤلاء في ما هو أبعد من مصالحهم، ويقيمون ما يجري لهم في سياق أوسع، يمتد ليطوق الوطن كله، وربما تنتابهم في لحظات نزعات ونوبات من التسامح والسكينة، فيمتد هذا التقييم إلى العالم برمته.

وبعض هؤلاء يقضي عمره في النضال ضد الظلم والفساد في مؤسسته الصغيرة، وبعضهم يترك مثل هذه المؤسسات، ليقيم مؤسسته الخاصة، أو يتحول هو إلى مؤسسة متنقلة، يحقق فيها كل ما عجز عن إنجازه في الوظيفة الحكومية. ولا يعني هذا تخلي هؤلاء عن النضال من أجل الأفضل، لكنهم يوسّعون دائرة الكفاح، بعد التخفف من البيروقراطية المعوقة، ويبتعدون عن مصادر النكد الوظيفي، التي تستنفد جزءا كبيرا من جهد المبدعين، وتبدد طاقاتهم الخلاقة في أمور تافهة.

ومن بين أصحاب هذا الفصيل الأخير هناك قلة تنجح في بناء مشروعها الفكري الخاص، بعيدا عن المناصب الرسمية، واعتمادا على موهبتهم، وهي المنصب الذي لا يستطيع أي أحد أن يقيلهم منها إلا الله. ويشق أتباع هذا الفريق طريقهم بالجهد والعرق والدأب والذهن المبدع المتجدد، والقدرة على مقاومة ما يعترض مسيرتهم من عراقيل خاصة وعامة. مثل هؤلاء يبينون أسطورتهم الذاتية على مهل وبجد وجهد صارمين، وينفضون عن كاهلهم غبار الأيام العصيبة، مجددين مع توالي الأيام تحديهم للظروف القاسية والأعداء الألداء، ولا ينفكون حتى ينالوا ما يقصدون، فيبدون نجوما زاهية وسط الظلمة، وطرقا معبدة في صحارى الوطن الشاسعة، حتى تتغير الظروف، ويأتي جيل جديد واع يسير على هذه الدروب بخطى واثقة، ويبني على جوانبها كل أسباب العمران.

 

كاتب وباحث مصري