لن ينعم المواطنون بالرفاهية وراحة البال إلا بتطبيق سلة كاملة من الإصلاحات تضع في حسبانها جميع الجوانب التي تؤثر في حياة المواطنين، وهو أمر بعيد عنا في ظل التركيبة السياسية الحالية، وسلطة فقدت قدرتها على قراءة الساحة.كثُر الجدل بشأن تصويت نواب «حشد» الثلاثة، أحمد السعدون وأحمد لاري وسيد عدنان عبدالصمد، مع اقتراح الحكومة بإعادة تقرير شراء المديونيات إلى اللجنة المالية، تمهيداً لإنشاء صندوق للمعسرين، وذهب بعضهم ليحمّل النواب الثلاثة مسؤولية عدم رفع المعاناة عن المواطنين وخيانتهم. ومع أن اقتراح شراء المديونيات وُلد ميتاً لأنه حتى لو وافق النواب الثلاثة عليه، فإن الحكومة كانت سترده ليحتاج آنذاك إلى موافقة أكثر من ثلثي الأعضاء، وهو أمر مستحيل، إلا أن المشكلة هي أن الموافقين على هذا الاقتراح بنوا موقفهم على فرضية محددة، وهي أن شراء المديونيات وإعادة جدولتها أو إسقاط فوائدها سيزيل هموم المواطنين المالية ويجعلهم يعيشون في رخاء ويُسر دون العيش على الخردة قبل موعد المعاشات.
وقد علمتنا التجارب أن محاولة علاج مشكلة اقتصادية معقدة بحلول بسيطة تتعاطى معها من زاوية واحدة من دون النظر إلى الزوايا الأخرى، غالباً ما تكون محاولة غير ناجحة، بل قد تؤدي إلى نتائج عكسية تماماً، فلو افترضنا أن الحكومة قامت بشراء المديونيات وإسقاط فوائدها وإعادة جدولتها فإن ذلك سيؤدي إلى زيادة هائلة في السيولة المتاحة في أيدي المواطنين، وهنا يأتي السؤال المهم: أين ستذهب هذه السيولة؟ فمع وجود بنك مركزي عاجز متواطئ مع بنوك جشعة، ومع وجود حكومة رأسمالها الوحيد هو الترقيع، إذ تسير بلا رؤية استراتيجية ومن دون أن تطبق القوانين الكابحة للقطط السمان، مما أدى إلى دخول البلد في فوضى سياسية واقتصادية، فمع هذه المعطيات كلها مَن يضمن أن هذه السيولة لن يتم شفطها مجدداً عن طريق ارتفاع الأسعار، وخصوصا العقارات... لتنطبق علينا مقولة «وكأنك يا بوزيد ما غزيت»؟!
وعلينا ألا ننسى أننا مررنا بتجربة مماثلة خلال السنوات الثلاث الماضية عندما ارتفعت أسعار السلع الاستهلاكية والعقار بشكل جنوني مع زيادة كوادر «بعض» موظفي قطاعات الدولة.
ولتوضيح وجهة النظر هذه سنتناول مثالين، فلنفترض أولاً أن سعر منزل ما يقدر بـ150 ألف دينار، فسيضطر المواطن إلى اقتراض 80 ألف دينار من البنوك، إضافة إلى قرض بنك التسليف 70 ألفاً لكي يشتري المنزل. وإذا قام مجلس الأمة بتمرير قانون يرفع قيمة قرض بنك التسليف إلى 100 ألف دينار (كما هو مقترح من قبل بعض الأعضاء)، فسيكون الهدف من هذا القانون تقليل القيمة التي يقترضها المواطن من البنوك التجارية مع الحفاظ على سعر العقار كما هو، لكن في ظل الأوضاع الحالية، سيؤدي ذلك إلى زيادة الطلب وزيادة أسعار العقار، وبالتالي زيادة المبلغ المقترض لشراء المنزل وزيادة الدين، أي أن النتائج جاءت عكسية ومضرة للمواطن.
أما المثال الثاني، فبعد الحرب العالمية الثانية، قامت الحكومة الفدرالية الأميركية بوضع حد أقصى لقيمة إيجارات الشقق في البلاد بهدف تسهيل حياة عشرات الآلاف من الجنود العائدين بعد الحرب. لكن ما حدث هو عكس المرجو تماماً، فنتيجة لهذه السياسة قام كثير من أصحاب الشقق ببيعها نتيجة لقلة عائد الإيجار السنوي، مما أدى إلى قلة الشقق المعروضة للإيجار، وخلال هذه الفترة، كان سوق الإيجار مقتصراً على الأثرياء فقط، لأنهم كانوا يدفعون مبالغ أكبر بكثير من الحد الأقصى من تحت الطاولة. وقد فشلت هذه السياسة لأنها تجاهلت معادلات العرض والطلب والمنحنيات ونقاط التقاطع التي تحكمها، وهي عملية ديناميكية بحتة يصعب السيطرة عليها.
ما أحاول قوله في كل ما سبق، انه في ظل الأوضاع المتأزمة وفي ظل حكومة «نائمة في العسل» وتقتات على الفوضى والتخبط، فإن النتائج التي يرجوها المواطنون من قانون شراء المديونيات غالباً لن تتحقق، ومن الممكن أن تأتي بنتائج عكسية.
ولن ينعم المواطنون بالرفاهية وراحة البال إلا بتطبيق سلة كاملة من الإصلاحات تضع في حسبانها جميع الجوانب التي تؤثر في حياة المواطنين، وهو أمر بعيد عنا في ظل التركيبة السياسية الحالية وسلطة فقدت قدرتها على قراءة الساحة وغير قادرة على مجاراة التغيير الذي يحصل في المجتمع. أما عن انشقاق «حشد» في التصويت على هذا القانون، والذي طبّل وزمّر له البعض، معتبرين ذلك بداية نهاية هذه الحركة، فسنتناوله في مقال آخر ان شاء الباري عز وجل.