لا تصدقوا الشعراء

نشر في 23-11-2007
آخر تحديث 23-11-2007 | 00:00
 محمد سليمان

من النادر أن يشيد مبدع بمبدع آخر، وعادة ما تشتد حدة الصراع بين أبناء الجيل الواحد بسبب التنافس، كما يسعى المبدع الشاب الى إزاحة الأب أو محوه أو تشويه وجهه الإبداعي بالسبل جميعها، فما السبب في ذلك، ألأن المعاصرة حجاب، كما يقولون؟ أم لأن المبدع والشاعر لا يرى غالباً سوى نفسه وأشباهه ومقلديه؟

يقولون في القرى والأحياء الشعبية المصرية «عدوك ابن كارك»، أي من يمارس مهنتك، لأن ذلك العدو الزميل يرى عادة تقدمه في تأخرك وعلو شأنه في انهيارك. وعلى مدى سنوات طويلة ظل ذلك المثل الشعبي ماثلاً وحياً وأنا أرى الطبيب يقلل شأن زميله أحياناً بشكل مباشر وغالباً بصورة ملتوية، وكذلك المحامي والصيدلي والمهندس والنجار والصانع...

ولا يختلف الأمر كثيراً في مجال الإبداع، فمن النادر أن يشيد مبدع بمبدع آخر، وعادة ما تشتد حدة الصراع بين أبناء الجيل الواحد بسبب التنافس، كما يسعى المبدع الشاب الى إزاحة الأب أو محوه أو تشويه وجهه الإبداعي بالسبل جميعها. وفي العقود الثلاثة الماضية قابلت وعرفت بعض شعرائنا الرواد المصريين والعرب، وأذكر أن أحداً منهم لم يُشِد بزميل له... ألأن المعاصرة حجاب، كما يقولون؟ أم لأن المبدع والشاعر لا يرى غالباً سوى نفسه وأشباهه ومقلديه؟

من هذا المنطلق نستطيع أن نقول إن أحمد شوقي الذي نحتفل بالذكرى الخامسة والسبعين لرحيله لم يزل شاعراً حياً قادراً على إثارة المعارك بين من يرونه شاعراً كبيراً صعد بالقصيدة العمودية إلى أعلى تجلياتها، ومن أهدر دمه الشعري وقلل شأنه واعتبره جزءاً من قديم بال تجب إزاحته.

والهجوم على شوقي قديم بدأ في أوائل القرن الماضي على يد زميله ومنافسه حافظ إبراهيم في كتابه «ليالي سطيح» الصادر عام 1906، الذي يقول فيه: «شوقي لم يغادر معنى من معاني العرب أو الفرنجة إلا سلخه ومسخه»... ثم يقول: «وشوقي لا يزال مهزول اللفظ غامض المعنى يحتاج الناظر في كلامه إلى تخوت الرمل وطوالع التنجيم».

وفي موضع آخر يعلق حافظ على احتفاء الصحف بصدور الشوقيات قائلا «ألم تر إلى الصحف كيف كانت تقول وهي تقرظ الشوقيات وقد أسندت إلى صاحبها ما تعجز صحف الآستانه عن إسناد بعضه إلى جلالة المتبوع الأعظم»، أي السلطان العثماني عبد الحميد. فحافظ إبراهيم كان يرى شعر شوقي غامضاً ومعانيه مسروقة، لكنه بعد أعوام وأعوام خاطب شوقي قائلاً:

أمير القوافي قد أتيت مبايعاً وهذه وفود الشرق قد بايعت معي

بعد حافظ قاد جيل العقاد وشكري والمازني الهجوم على شوقي وشعره، وكان هذا الجيل الشاب، في ذلك الوقت، يسعى إلى تجديد الشعر ونقله من الانشغال بالمديح والمناسبات إلى تجربة الشاعر وذاته ومجمل خبراته. وكان شوقي عائقاً يهدد أحلامهم ومشاريعهم لذلك كان هجومهم عليه أعنف وأشرس، خصوصاً من المازني الذي كتب يقول «ليس شوقي عندي بالشاعر، فهو قطعة قديمة متلكئة من زمن غابر لا خير فيه، وما أعرفني قرأت له شيئاً إلا أحسست أنني أقلب جثة»... ولا أظن المازني كان منصفاً أو ناقداً موضوعياً، فشوقي ككل الشعراء الكبار له جيده ورديئه وزمنه وتجربته، لكن المازني والعقاد ومن أسرفوا في الهجوم على شوقي وفي الإشادة به أيضاً، رأوا ما أرادوا أن يروه فقط من شعره وإبداعه وانشغلوا بسرقاته ومعارضاته، ناسين أن المعاني مطروحة في الطريق... كما يقول الجاحظ، وأن المتنبي اتهم بالسرقة والسطو على معاني الآخرين، وأن أبا تمام اتُهم بالغموض، وأن طرافة القصيدة ليست وحدها تحدد أصالة الشاعر، وإنما تحددها أيضاً قدرته على الاستفادة من التراث الشعري، كما يقول الشاعر الإنجليزي تي إس إليوت.

جديد الشعر يحارب دائماً قديمه الراسخ، بحثاً عن مكان ومكانة له. وهذه الحرب رغم شراستها وعنفها قد لا تخلو أحياناً من الطرافة فالشاعر الأميركي الشاب «ازراباوند» هاجر إلى إنكلترا عام 1910، وأراد بعد أن استقر أن يلفت الأنظار وأن يجد لنفسه مكاناً في الساحة الشعرية، فكتب يهاجم أكبر شعراء إنكلترا في ذلك الوقت «وليم بتلر ييتس»، متهماً شعره بالضعف ولغته بالهشاشة وبسلبيات كثيرة أخرى. وبعد نشر مقاله توقع رداً غاضباً من الشاعر الكبير أو من بعض أتباعه ومن ثم نشوب معركة نقدية تحقق له الوجود المنشود، لكنه فوجئ برسالة رقيقة من ييتس يوافقه فيها على كل آرائه ويحييه ويطلب منه مراجعة وتصحيح مخطوطاته الشعرية المرفقة بالرسالة... فالشعراء غالباً ليسوا أمناء أو أبرياء عندما يتحدثون عن زملائهم... فلا تصدقوا الشعراء.

* شاعر وكاتب مصري

back to top