في انتظار رمية النرد
قبل أكثر من أسبوعين مررتُ بصورة عابرة على مزاد اللوحات الشهير (سوثبي)، لفت انتباهي على الواجهة الخارجية بوسترات إعلانية للوحات مألوفة لكل من براك، بيكاسو، رينوار، وآخرين، انتهى المزاد بأسعار خيالية كالعادة: خيول براك بيعت بمبلغ 12 مليون جنيه استرليني (كان المتوقع أن يبلغ السعر 6 ملايين!)، وجه امرأة بيكاسو 7 ملايين، امرأة رينوار 7 ملايين... الخ
اللوحة تدخل سوق المضاربات المالية، الفنانون حتى النصف الأول من القرن العشرين لا عهد لهم بهذا ولا معرفة، بعد ذلك صار بيكاسو يعرف ذلك، فحرص على استثمار حتى توقيعه، واليوم لم يعد للفنان إلا أن يحدّق في أفق مستقبله، حالما بضربة الحظ. قاعات العروض الفنية في لندن مليئة بالغرائب الممتعة والمثيرة، وتجوالي لا يخلو من مفاجآت ودهشة، حتى بعد أكثر من ربع قرن منه، ثمة روح متنافسة، متعجّلة في هذا التنافس-تحسها دفينة في تطلعات اللوحة، والفنان الذي وراءها- إلى خصيصة تميزها، وترفع بها إلى حالة الاستثناء، التي ترفع الفنان بدوره إلى الشهرة. والشهرة وليدة رمية نرد عمياء، وأن يكون الإبداع جملةً تحت رحمة ضربة الحظّ ورحمةِ السوق المالي لَيملأ قلب الواحد بأسى عميق. في مبنى Tate Britain القديم المطل على نهر التيمس معرضان كبيران، سعيت إلى رؤيتهما في زيارة واحدة، كان الأول عن مجموعة من فناني مطلع القرن العشرين جمعتهم مقاهي وأفنية مدينة كامدن في لندن فتسموا باسمها، أما الثاني فكان مقتصراً على الفنان البريطاني المعاصر بيتر دويْغ (مواليد 1995)، فنانو كامدن ميالون إلى الواقع ومسرات وأوجاع الحياة اليومية، وعميقو الرغبة في الانتفاع من تقنيات الفن الجديد الطالع في أوروبا، ثم نهم ينتسبون إلى مرحلة مبرّأة من لوثة السوق المالي، التي جعلت اللوحة مادة استثمار، في حين ينتسب دويْغ إلى مرحلتنا هذه. من مواليد أدنبرة، ولكن عائلته انتقلت إلى ترينيداد، ثم إلى كندا حيث قضى معظم شبابه، ثم إلى لندن لدراسة الفن، طلع على الناس في أول التسعينيات بموهبة ملفتة للنظر، لوحتُه كبيرة الحجم، محتفيةٌ بمهارتها، ولكن عبر بصيرة فنان لا يريد أن يغادر الواقع من دون أن يلتقط عبره تلك اللحظة الاستثنائية، لحظة الرؤية الفنية التي تُحيل الواقع إلى تشكيل بصري، اللوحة كبيرة لكي لا تُرى إلا عن بعد، وكلّما ازداد المشاهد اقتراباً ازدادت اللوحة تجريداً، في واحدة نشاهد مبنى أبيض من طوابق عدّة ونوافذ ملوّنة، يُرى عبر حشدٍ من أشجار عملاقة، عميقة اللون، فرصة رائعة للعب الخيال، أخرى بيضاء بفعل الثلج، إلا من شجرة في الوسط، وعلى المدى تتبعثر كالخرزِ الملوّن أجسام المتزحلقين، الذين لا تملك أنْ تميزّهم إلا عن قرب. هذا الفنان البارع تدحرج لصالحه النرد، وصار يبيع لوحته بأسعار السوق الخيالي (قبل فترة باع إحدى لوحاتِه بخمسة ملايين)، ولكن الذي حصل يتطابق مع توقعي بأن الشهرة تجعل الفنان يُحمّل كل إشارة لونية أو خطيّة من يده أو فرشاته معاني ودلالات يفترض أن المشاهد سيلتقطها بيسر الساحر، دويْغ أغرق مسيرة تجربته، في قاعتي العرض الأخيرتين، بلوحات لا بد أنه يتوهم في فراغاتها، وفي خطوطها الخاطفة المتسارعة، وألوانها التي لم تُشغل يده إلا دقائق، إشارات تصوفية غاية في الخفاء. بالرغم من أن لوحاته الكبيرة الأولى كانت تتم في الاستوديو، ويستوحيها عادة من صور فوتوغرافية عديدة، ومنوعة، لكن الواحدة منها كانت تستغرق منه أشهراً من العمل التأملي الجدي، لوحته الحالية قد لا تأخذ من يومه إلا ساعة أو أقل من ساعة. تماما كما عوّد بيكاسو جمهوره المتّقد حماساً، على التخطيط الذي يشبه توقيعاً. رسامو هذا الوهم أصبحوا علامة فارقة لفن ما بعد الحداثة. في متحف «تيت مودرن»، وهو القسم الجديد من متحف «التيت»، المكرس لتحديات ما بعد الحداثة، يُفتتح معرضٌ استعادي ضخم للفنان دوشامب، صاحب «المبولة» الشهيرة. كنت أعرف ذلك، ولكن لم تكن في النية زيارته، بالتأكيد.