الإسلام العلمي

وإذا كان اليسار الإسلامي إسلاماً عقلانياً، فمن الطبيعي أن يكون إسلاما طبيعيا. فالعقل والطبيعة هما الركيزتان الرئيسيتان للوحي. فالنص له دعاماتان. الأولى، في العقل والفكر والنظر والبرهان. والثاني، فيي الطبيعة والواقع وحياة الناس. الأول فى السماء, والثانى في الأرض. وألا يتحول الوحى إلى مجرد عقائد وشعائر مغلقة على نفسها. بلا دليل يؤيدها أو واقع يتحقق فيه. وقد ظهر هذا البعد في النص نفسه في أسباب النزول. كل حكم له سبب فى الواقع. الواقع يسأل، والوحي يجيب. (ويسألونك عن الأهلة)، (ويسألونك عن المحيض)، (ويسألونك عن الأنفال)، (ويسألونك عن الخمر), ويجيب الوحى (قل). وكل الإجابات تدل على جلب المنفعة ودفع الضرر. السؤال نظري، والإجابة عملية. وكما تعني أسباب النزول أولوية الواقع على النص فإن «الناسخ والمنسوخ» يعني أولوية الزمان على الحكم، وتطور الزمان على ثبات الحكم. فالمكان والزمان بعدان للواقع. ولا يوجد وحي إلا فى الزمان والمكان. يتكيف الوحي طبقا لتطور الزمان والتدريج فى التغير الاجتماعي. وقد ظهر هذا الجانب في كل العلوم الإسلامية القديمة. ظهر في علم العقائد، وهو علم أصول الدين أو علم التوحيد في جعل التفكير في الطبيعة سابقاً على التفكير فيما بعد الطبيعة. ولا يمكن التفكير في الذات والصفات والأفعال إلا بعد إثباتها عن طريق الجوهر والأعراض. ولا فرق بين صفات الإنسان الكامل والإنسان المتعين. وإذا كان التوحيد خاصا بالله فإن العدل خاص بالإنسان. وإذا شمل التوحيد الذات والصفات فإن العدل يتضمن العقل والحرية. والإيمان والعمل والإقرار ظهور للتوحيد في سلوك الإنسان. والإمامة تحقق التوحيد في المجتمع والدولة والتاريخ. وفي علوم الحكمة، وهي العلوم الفلسفية، الطبيعيات أيضا سابقة على الإلهيات، كما سبق المنطق أي العقل الطبيعيات. فدون النظر إلى الطبيعة لا يمكن الدخول فيما بعد الطبيعة. العالم دليل على الله، وليس الله دليلاً على العالم. والفكر العلمي فكر استقرائي صاعد، وليس فكراً استنباطياً نازلاً، من الجزئي إلى الكلي، وهو أمر مستغرب, وليس من الكلي إلى الجزئي، كما هو شائع. بل إن علوم التصوف أيضا أكدت على أهمية الواقع والطبيعة فيما سمته الوجود. فالحق لا يفهم بعيداً عن الخلق. ويروون الحديث القدسي «كنت كنزاً مخفياً فأحببت أن أعرف فخلقت الخلق فبه عرفوني البعض» سمى الحلاج ذلك الحلول أو الاتحاد. والبعض الآخر مثل ابن الفارض سماه وحدة الشهود، ألا يرى في العالم إلا الله. وفريق ثالث وعلى رأسهم ابن عربي سماه وحدة الوجود. فالإنسان في العالم. والفناء بقاء. وقد ظهر الواقع على خير ما يكون في التعليل في علم أصول الفقه. فكل الأحكام الشرعية معللة. والعلة هي سبب التحليل أو التحريم. وهي العلة المادية، درء المفاسد وجلب المصالح. وهى لا تعرف إلا بالمناهج التجريبية التى سماها القدماء «السبر والتقسيم». فالسكر الماديي علة تحريم الخمر. وعدم اختلاط الأنساب علة تحريم الزنا. وقد سمى بعض الأصوليون المصدر الرابع من مصادر التشريع إما دليل العقل وإما القياس وإما الاجتهاد، تأكيداً على علة الأصل المستنبطة من النص أو الاستصلاح والاستصحاب والمصالح المرسلة تأكيداً على علة الفرع المستقراة من الأجزاء. والرخص فى مقابل العزائم، والضرورات تبيح المحظورات، والعادة محكمة، كل ذلك كاشف عن وجود الواقع في طرق الاستدلال واستنباط الأحكام.العلم هو العلم النافع، ما يمس حياة الناس «أعوذ بالله من علم لا ينفع». وهو العلم الذى يبقى ويؤثر فى الأرض (أما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض).الواقعية أو العلمية أو الطبيعية أو البرجماتية ليست قصراً على الغرب وحده، بل هى نزعة فى كل حضارة شرقية، صينية أو هندية أو مصرية قديمة أو بابلية أو آشورية أو كنعانية. «في البدء كانت الكلمة»، ولكن الكلمة هي الفعل (كن فيكون). وقد أوضح ذلك جوته بقوله «في البداية كان الفعل»، وهو ما أبرزه القرآن أيضا في عدة آيات (وقل اعملوا)، (يا قوم اعملوا على مكانتكم إني عامل). وقد استولى محمد الفاتح على القسطنطينية والنصارى كانوا منهمكين في مناقشة طبيعة السيد المسيح إلهاً أم إنساناً. وعندما سئل الرسول متى الساعة أجاب «فاستعد لها».كاتب ومفكر مصري