Ad

يرى مسؤول عسكري لبناني، في حديثه معي، أن بصمات إسرائيل واضحة في جريمة قوات اليونيفيل، وأن العناصر التي ربما نفذتها تنتمي إلى فلول جيش انطوان لحد الذين بقوا في إسرائيل، وأن التحقيقات اللبنانية تسير في هذا الاتجاه. ويرجح أن إسرائيل ربما تعد لضربة جوية مفاجئة لتدمير مصانع صواريخ سورية موجود معظمها في العمق السوري، وهي ضربة يحتمل أن يتسع نطاقها لاجتياح الأراضي السورية وحصار دمشق.

حديث اللبنانيين بطبقاتهم وأهوائهم السياسية والاجتماعية والاقتصادية المختلفة، لا يقل هذه الأيام عن حرارة فصل الصيف. هو حديث حرب بين السنة والشيعة، بين المسلمين والمسيحيين، بين الفلسطينيين لاجئين ومقيمين في نهر البارد، شمال لبنان، أو في غزة والضفة الغربية المحتلة. كذلك هو حديث حرب بين الولايات المتحدة الأميركية وبين الجمهورية الإسلامية الإيرانية. وأخيراً، حرب بين سورية وحليفها «حزب الله» من جانب وإسرائيل من جانب آخر. ولعل حديث هذه الأخيرة لا يستأثر بالتحليلات أو بالتنظير المطلوب، كما تستأثر أحاديث الحروب الأخرى، مع أنها، في الواقع، الحرب الأكثر احتمالاً والأقرب حدوثاً.

بعد استهداف الفرقة الإسبانية العاملة في الجنوب ضمن قوات الأمم المتحدة (اليونيفيل) نهار الأحد 24 يونيو، ومقتل ستة جنود إسبان، طُرح السؤال الكبير الذي لم يجد جواباً إلى الآن، وقد يمر وقت طويل قبل العثور على هذه الإجابة من وراء هذه العملية القذرة، وما أهدافها؟

بعيداً عن ذكر الاتهامات التي ملأت الجو السياسي اللبناني، فإن «اليونيفيل» بالتعاون مع قيادة الجيش اللبناني باشرت تحقيقاتها فوراً، في محاولة يائسة للردّ على ذلك السؤال الكبير. وكأي جهاز أمني محترف، وضع الفريقان لائحة بالجهات المستفيدة من هذه الجريمة، فمعرفة المستفيد قد تؤدي إلى اكتشاف الفاعل ومن وراءه، كما يقول علم التحقيق الجنائي.

• إسرائيل أولا... وأخيراً

على ما يبدو، فإن الجهات التي ذكرت في «لائحة المستفيدين» الأولية كانت متقاربة، لكنها لم تكن متطابقة في الأولويات. بينما وضعت «اليونيفيل» اسم «القاعدة» في رأس لائحتها وأخذت تتصرف على هذا الأساس، فإن قيادة الجيش اللبناني المولجة بالتحقيق وضعت اسم إسرائيل في رأس لائحتها. كذلك لم تُستبعد الجهات المستفيدة الأخرى؛ كالقاعدة، وسورية وحلفائها.

ومن هنا يبرز عدم التطابق في توجيه إصبع الاتهام. «اليونيفيل» لها منطقها الذي بنته على الأجواء السياسية مضافة إلى معلومات سابقة خرجت من مطابخ «القاعدة» وحلفائها الأصوليين عن التهديد باستهداف قواتها في الجنوب. وفي تحليلها الأولي؛ فإن الجريمة هي امتداد للقتال الدائر في مخيم نهر البارد، وهدفه هو «تحويل الأنظار عن حصار الجيش اللبناني للمخيم الفلسطيني المنكوب وتخفيف الضغط العسكري عنه». وكذلك فإن قوات الطوارئ الدولية ترى أن الجريمة تحمل بصمات « فتح الإسلام» وحلفائهم من الأصوليين المتشددين الذين أخذوا في الظهور بكثافة في الساحة اللبنانية المنقسمة على نفسها. وتصر القوات الدولية على أن يبدأ التحقيق من هذا الاحتمال إلى حين كشف الحقيقة. عندها ينتقل التحقيق إلى تحديد «الجهات المحتملة» الأخرى، التي تضم سورية وايران وحلفاءهما في لبنان (يعني «حزب الله»)، ثم أخيراً إسرائيل التي جاء اسمها في آخر «لائحة الاحتمالات» هذه.

في المقابل، فإن القيادة العسكرية اللبنانية وضعت إسرائيل في رأس لائحة المتهمين المحتملين، وهي بدورها ترى أن يتم جلاء التحقيق بشأن هذه النقطة، قبل الانطلاق نحو محاولة جلاء النقاط الأخرى. وللقيادة اللبنانية منطقها التحليلي. فهي تؤمن أن الاستراتيجية الإسرائيلية، منذ قيام الدولة في عام 1948، كانت ترفض وجود قوات أممية عازلة على حدودها الشمالية مع لبنان. لكن نتائج حرب يوليو 2006 السلبية، بالإضافة الى الضغط الأميركي الذي مارسته واشنطن بعد أن تأكد لها أن إسرائيل فشلت في تحقيق أهدافها العسكرية بعد قتال دام أكثر من شهر، كل ذلك دفع إسرائيل مرغمة إلى التخلي عن مبدأها الاستراتيجي، وبالتالي القبول بالقرار الدولي 1701 الذي جاء بقوات «اليونيفيل» الى الجنوب اللبناني.

• بصمات إسرائيل وأول الغيث

وترى القيادة اللبنانية أيضاً أن إسرائيل لن تنسى «هزيمتها» في حرب يوليو، وهي اليوم بصدد خلق الظروف الموضوعية للقيام بعملية انتقام واسعة في لبنان، وأن هذه الظروف باتت شبه جاهزة، والعقبة الأساسية التي تحول دون ذلك استمرار وجود «اليونيفيل» على الحدود الفاصلة في الجنوب. وهذا الوجود له بالفعل أهمية معنوية لا عسكرية تتعلق بسمعة إسرائيل الدولية لا أكثر. ومن المفيد لإسرائيل أن تزيل هذه العقبة. والعملية التي أودت بحياة جنود الفرقة الإسبانية، في نظر القيادة اللبنانية، هي «أول الغيث» والهدف الإسرائيلي هو إعادة قوات الطوارئ إلى أوطانهم أولاً، واذا لم يحصل ذلك، فان «تجميدهم» في ثكناتهم الجنوبية هو الهدف الثاني. وهناك عامل آخر ذكره لي مسؤول عسكري لبناني كبير «إن إسرائيل ترى في استمرار بقاء القوات الدولية في الجنوب خدمة كبرى لحزب الله الذي يسعى إلى استغلال الهدوء المتاح في الجنوب من خلال وجود «اليونيفيل»، لمضاعفة ترسانته العسكرية استعداداً لأي هجوم انتقامي إسرائيلي».

كذلك يرى المسؤول العسكري اللبناني أن بصمات إسرائيل واضحة في الجريمة، وأن العناصر التي ربما نفذتها تنتمي إلى فلول جيش انطوان لحد الذين بقوا في إسرائيل، وأن التحقيقات اللبنانية تسير في هذا الاتجاه. (جيش لحد أنشأه شارون في الثمانينيات خلال ذروة الحرب الأهلية اللبنانية من عناصر تنتمي إلى جنود لبنانيين متمردين بالإضافة إلى عدد من القوات اللبنانية، وكذلك أهالي الجنوب من الشيعة. ثم حُل هذا الجيش بعد الانسحاب الإسرائيلي الأول من الجنوب في عام 2000). ويعتقد المسؤول اللبناني أن ما تبقى من جيش لحد، خاصة سكان القرى الشيعية، هم خبراء في معرفة أرض الجنوب المتاخمة للحدود الإسرائيلية. وليس صعباً تزويدهم بالسلاح الإسرائيلي المتفجر الذي قتل الجنود الإسبان.

يشرح المسؤول العسكري اللبناني قناعة قيادته فيقول «عندما تتحدث إسرائيل عن السلام، فإنها تستعد للحرب». والحكومة الإسرائيلية أخيرا تحدثت كثيراً عن السلام مع سورية، ومع فلسطين، ومع لبنان، ومع العالم العربي كله. لكن معلوماتي تشير إلى أنها تستعد للحرب لإزالة البقعة السوداء من تاريخها العسكري التي أحدثتها حرب تموز (يوليو)».

وذكر المسؤول اللبناني بعض حقائق حرب يوليو التي لم تنشر بعد على نطاق واسع. من هذه الحقائق أن إسرائيل تمكنت من ضرب صواريخ «حزب الله» المتوسطة والبعيدة المدى، وكادت تشل حركة هذه الصواريخ، لولا أن «حزب الله» أقدم على تغيير تكتيكه فاستخدم وبكثرة الصواريخ القصيرة المدى. وفي حرب الصواريخ الحديثة، فإن الصاروخ البعيد المدى يحتاج إلى 4 دقائق ليصل إلى هدفه والصاروخ المتوسط المدى يحتاج إلى فترة زمنية أقل نظراً لأنه يطلق من مسافة قريبة من الهدف. أما الصاروخ القصير المدى فهو يحتاج إلى ثوان قد تصل الى الستين ثانية، ما يقصر حالة «الإنذار الردعي» لدى العدو. وهذا ما حدث في حرب يوليو. «فحزب الله» استخدم هذا النوع من الصواريخ القصيرة المدى وتمكن من إطلاق 3800 صاروخ سقطت في شوارع المدن والمستوطنات الإسرائيلية القريبة من الحدود اللبنانية. «وهذه الصواريخ هي صناعة سورية محلية».

• خطة إسرائيلية لحرب محتملة

وانطلاقاً من هذا الواقع العسكري الذي خلقته حرب يوليو، كما ذكر المسؤول اللبناني، فإن المواجهة المقبلة، في حال حدوثها، ستكون مواجهة مباشرة بين إسرائيل وسورية، وأن لبنان سيصبح «ممراً عسكرياً لهذه المواجهة المتوقعة». فالخطة العسكرية الاسرائيلية، التي وضعت أخيرا تهدف الى تدمير مصانع الصواريخ السورية الموجودة -إجمالا- في العمق السوري، وذلك من خلال سلسلة غارات جوية مفاجئة، شبيهة بالغارة الاسرائيلية التي دمرت مفاعل «تموز» النووي العراقي في عام 1981.

وفي حال الرد السوري، فإن إسرائيل وضعت خطة أكبر وأشمل من تدمير مصانع الصواريخ. هذه الخطة تهدف إلى اجتياح الأراضي السورية واللبنانية لمحاصرة دمشق تمهيداً لإسقاط نظام الرئيس بشار الأسد.

القيادة العسكرية السورية، كزميلتها اللبنانية، ليست غائبة عن هذه الاحتمالات بفضل استمرار التنسيق والتشاور والتعاون بين القيادتين في كل الشؤون الإسرائيلية، وذلك تنفيذاً للملحق السري العسكري لمعاهدة الأخوة والتعاون الذي وقع بين البلدين في عام 1991. وهذه المعاهدة جرى تجميد بعض بنودها السياسية نظراً للعلاقات السيئة بين البلدين، «لكن البنود العسكرية التي وضعت في ملحق خاص منفصل عن البنود السياسية، ما زالت سارية المفعول»، وأحد بنود هذه المعاهدة يعطي القوات العسكرية السورية حق الدخول إلى المنطقة الممتدة من مرجعيون إلى البقاع الغربي وامتداداً سهل البقاع وصولاً إلى الحدود اللبنانية-السورية في شمال لبنان، وذلك عند شعور القيادة العسكرية السورية بخطر الاجتياح الإسرائيلي.

• حصار دمشق والخاصرة الطرية

وفي تقدير العسكريين السوريين، فإن الخطة الإسرائيلية لحصار دمشق تعتمد على ثلاثة محاور؛ أولها: محور مرتفعات الجولان والقنيطرة للوصول الى أبواب دمشق من دون دخول العاصمة السورية. والمحور الثاني: الهجوم من مرجعيون وحاصبيا والبقاع الغربي، ثم اجتياح نقطة المصنع الحدودية اللبنانية وجديدة يبوس السورية. وبذلك يكتمل حصار دمشق. والمحور الثالث: هو اجتياح إسرائيلي يصل إلى حدود حمص لتهديد العمق السوري وشلّ قدرته وعزله عن العاصمة. من هنا، فإن الجنوب اللبناني، وكذلك البقاع، يشكلان في الاستراتيجية الدفاعية السورية، «الخاصرة الطرية»، ومن الضروري سدّ هذه الثغرة القاتلة، و«حزب الله» مؤهل للعب دور رئيسي في إعاقة ومنع الاجتياح الإسرائيلي المرتقب من تحقيق أهدافه.

* * * *

الاشارات الواردة من واشنطن وبعض العواصم الغربية تدفع إلى القول إن اسرائيل في طريقها للحصول على «الضوء الأخضر» لتنفيذ عمليتها الجديدة، خاصة أن نجاحها يمكن أن يشكل خشبة خلاص لواشنطن من المستنقع العراقي ويؤدي بالتالي إلى فرض السلام الأميركي-الإسرائيلي في المنطقة. لكن هناك من يخشى من سوء الحسابات الإسرائيلية والأميركية. عندها يفلت زمام السيطرة على الوضع. عندها تنتشر الفوضى العسكرية، بعد الفوضى السياسية الناتجة عن غزو العراق، مما يؤدي إلى إغراق المنطقة في لهيب العنف الدموي والتدميري.

من السهولة بمكان ان تبدأ دولة ما الحرب، لكن من الصعب أن تنهيها بالشكل الذي تريد، وخير دليل على صحة هذا القول هو إقدام الولايات المتحدة على غزو العراق. كذلك، هناك نظرية تقول إن اسرائيل يمكن أن «تضيع» في حالة فوضى عسكرية غير مسيطر عليها.

كاتب لبناني