Ad

لم أجد في مقالة بن بجاد ما يمسّ شيئاًَ من الثوابت الشرعية أو إنكاراً لما هو معلوم من الدين بالضرورة لا في هذه المقالة ولا في غيرها من مقالاته النقدية المنشورة. فكيف يجوز لعالم ديني كبير أن يتسرع ويحكم بالكفر على أخيه المسلم لمجرد شبهة أو سوء فهم؟ هل قرأ هذا الشيخ المقالة أم نُقِل إليه مضمونها فحكم؟

أصدر الشيخ عبدالرحمن البراك -من كبار علماء الدين في السعودية- فتوى خطيرة، تكفّر كاتبين سعوديين هما: عبدالله بن بجاد العتيبي، ويوسف أبا الخيل، بسبب ما اعتبره آراء (تكفيرية) وردت في مقالين منشورين في صحيفة «الرياض» السعودية وغيرها، هما «إسلام النص وإسلام الصراع» للأول، والآخر «في ميزان الإسلام» للثاني.

وقال البراك في فتواه التي يرجع تاريخها إلى 14 مارس ونشرت على موقعه على الإنترنت: إنه من المؤسف المخزي نشر مقالات تتضمن هذا النوع من الكفر في بلاد الحرمين، وطالب ولاة الأمر بمحاسبة تلك الصحف التي نشرت مثل هذا الباطل باعتبارها شريكة في الإثم، موضحاً أنه يجب محاكمة الكاتبين وتطبيق حد الردة إذا لم يتوبا ويتراجعا عن آرائهما، كما أصدرت مجموعة مكوّنة من 20 من علماء الدين المرتبطين بالبراك، بياناً مؤيداً لشيخهم قائلين: إن الفتوى مسنودة قرآناً وسُنّة، وإنه يتعين أن تكون هناك محاكمة.

تأتي هذه الفتوى في سياق الصراع الفكري المحتدم بين أتباع الجمود السلفي ودعاة التغيير والإصلاح لتشكل أكبر هجمة سلفية عليهم، حيث إن (أبا الخيل) من المتخصصين في القضايا الفكرية الإسلامية ويعالج هذه القضايا من منطلق رؤية إسلامية متصالحة مع روح العصر ومعطياته، أما عبدالله بن بجاد العتيبي فأعرفه عن قرب وأتابع كتاباته في مختلف المواقع وأرى فيه عقلية إسلامية فذّة. وهو معروف بتحليلاته المعمقة لظواهر التطرف والعنف الديني التي تجتاح المنطقة وتغتال عقول الشباب وتفتك بنفوسهم، كما أنه يمتاز بالقدرة والمهارة في تشريح البنية الفكرية والعقدية لمختلف جماعات الإسلام السياسي والفكر القاعدي وبقية الحركات الأصولية البارزة في الساحة.

ولقد استغربت -شخصيا- صدور مثل هذه الفتوى الخطيرة، وفي هذا الوقت بالذات وفي السعودية التي تشهد على امتداد السنوات الأخيرة حراكاً فكرياً واجتماعياً مثمراً أفرز مناخاً صحياً تنفس فيه الفرقاء فكراً منعشاً، وكان من تداعياته ارتفاع سقف حريات التفكير والتعبير. لم أطّلع على مقال (أبا الخيل)، ولكن مقالة بن بجاد «إسلام النص وإسلام الصراع» كنت قد قرأتها حين نشرها ولم أجد فيها شيئاً يستحق صاحبها أن يُكفَّر بسببها لا من قريب ولا من بعيد، وعندما صدرت الفتوى المكفّرة رجعت إلى المقالة مرة أخرى زيادة في التأكد والطمأنينة فلم أجد ما يستوجب الغضب، فضلاً عن التكفير، المقالة كلها تدور حول فكرة جوهرية واحدة، هي أن هذا الإسلام السهل البسيط الذي عرفه الأعرابي في الصحراء وآمن به واقتنع به من غير تعقيدات الفقهاء وصناعتهم الفقهية، ومن غير أي عدائية للآخر المختلف في الدين -مادام مسالماً- تحول على أيدي الفقهاء وأصحاب الملل والنحل إلى إسلام الصراع وأصبح همّ الفرقاء وأصحاب العقائد توظيف الدين في خدمة أهدافهم الصراعية، وتشكلت في النهاية «إسلامات» تعبر عن رؤية كل فريق وتثبت نظرية كل طائفة، وأتى بمثال على الزيادات التي أدخلها المتصارعون على النص ليبرروا أهدافهم ورغباتهم في الحديث «أن تشهد أن لا إله إلا الله» حيث جزأوا الشهادة إلى جزأين: الأول (لا إله) والثاني (إلا الله) وكل ذلك بهدف إيديولوجي معين هو تكفير كل المخالفين لتفسيراتهم الضيّقة وتبرير قتالهم والبراءة منهم. هل في هذا الكلام ما يستوجب التكفير؟ أليس اختلاف الفرق والمذاهب الإسلامية على امتداد ألف سنة في من هي «الفرقة الناجية» التي تدخل الجنة وحدها، حقيقة تاريخية معروفة؟! ألم يختلفوا إلى أكثر من 73 فرقة مذهبية وعقدية وكل واحدة تدعي أنها هي التي تملك الحقيقة الدينية الصحيحة؟! أقول هذا الكلام وأنا دارس ومتخصص في الشريعة وحاصل على الدكتوراه من الأزهر الشريف، أقول بحق وصدق لم أجد في مقالة بن بجاد ما يمسّ شيئاًَ من الثوابت الشرعية أو إنكاراً لما هو معلوم من الدين بالضرورة لا في هذه المقالة ولا في غيرها من مقالاته النقدية المنشورة. فكيف يجوز لعالم ديني كبير أن يتسرع ويحكم بالكفر على أخيه المسلم لمجرد شبهة أو سوء فهم؟ هل قرأ هذا الشيخ المقالة أم نقل إليه مضمونها فحكم؟ ألا يعلم هذا الشيخ أن الحكم بالتكفير من شأن القضاة بناء على إجراءات وتدابير معينة وليس من شأن الدعاة والمفتين والعلماء؟! أين إحسان الظن بالمسلم؟ أين التمس له عذراً؟ أين إقالة عثرة المسلم؟ هب أن الكاتبين أخطآ فأين تعاليم الإسلام في أدب الحوار والجدال بالأحسن؟ وأين إسداء النصيحة والرفق بالمخطئ؟ أين قوله تعالى «وقولوا للناس حسناً».

* كاتب قطري- بالاتفاق مع «الوطن» القطرية