لم يعد الوقت مناسباً للتوفيق والتلفيق، ولنخبنا التي تبارك عنفا سلطوياً أو أصولياً أو «نضاليا» في سبيل «القضية»، أن تقف قليلاً لتراجع نفسها، لأن ما شاركت في تأسيسه من وعي شعبي- مع مجمل الظروف الأخرى- يكاد يذهب بما تبقى، وقد بقي الأهم والأكثر مركزية وجوهرية، الإنسان بما هو محبة وإبداع ووعي خلاق.
عندما قرأت خبر قيام أحد عناصر حركة «فتح» برمي نظيره في حركة «حماس» من شرفة مبنى إلى حتفه، قلت هي الأصولية الإسلامية. ثقافة موت مهللة بالتقديس، الله أكبر ترفع زوراً وبهتاناً في جهنم من الكراهية ونفي الآخر. أكملت قراءة الخبر، فإذا به عنصر من «فتح» يلقي بنظيره من «حماس»، من شرفة مبنى إلى حتفه. قلت هو تطرف العلمانية حين تصبح ديناً، وكل تطرف ينتهي بعنف أهوج. عندما تناثرت أشلاء النائب وليد عيدو مع نجله والآخرين في انفجار بيروت الأخير، لعنت إرهاب «الكبار». ولما قامت مذيعة من الجنس اللطيف في إحدى الفضائيات اللبنانية بالشماتة على الهواء مباشرة، بتحول تلك الأجساد رماداً، قلت هي ذروة المساواة بين الجنسين! في القسوة والتصالح مع الموت... موت الآخرين على أي حال. عشية الحكم على سبعة من الشبان السوريين قبل أيام، من محكمة استثنائية غير دستورية ولمدد تراوحت بين 5-7 سنوات، قرأت من بين التعليقات على الخبر في بعض مواقع الانترنت «يستحقون ذلك، كان يجب أن يحكم عليهم بالإعدام، هؤلاء الخونة». أصحاب التعليقات، يختلفون في الرأي مع الشبان المحكومين، وهم نشطاء سلميون ديموقراطيون يبحثون عن شيء من الحرية والعدالة. قلت هي ثقافة الاستبداد، لا تتقن غير لغة العنف والنفي، إلى العالم الآخر وليس إلى جزيرة نائية. وفي أي التفافة وفي كل حركة وبين كلمة وحرف، إشارة إلى عنف موجه نحو الآخر لا يقبل بأقل من سحقه، من عنف السلطة إلى عنف الجماعات الإرهابية، إلى عنف «المقاومات» إلى عنف معمم يجتاح أنبل المفاهيم ويذهب بأرقى المشاعر الإنسانية. في كل المعارك التي خاضتها أنظمتنا ونخبنا و»مقاوماتنا»، تجاه بعضها بعضا أو تجاه أعدائها الواقعيين حينا والوهميين حينا آخر، سقطت قيمة الإنسان الفرد من الحسابات، الحرب من أجل الأرض، والدين، والخصوصية الثقافية، وجميعها بمعزل عما تعنيه جميعها وتستمد معناها وقيمتها منه، أي الإنسان. لا عجب بعد ذلك أن يُسحق الفرد على يد أنظمة استبدادية تحت عناوين مقاومة الإمبريالية والصهيونية، ولا أن ينادى بـ «الله أكبر» على أشلاء جثث الأبرياء. وليس إلا تحصيل حاصل أن تتوجه في النهاية بندقية المقاومة إلى صدر أخ أو صديق. وبعد ذلك كله، نجد العنف الممارس باسم كرامتنا وحريتنا وديننا، يجد تبريره لدى شرائح أوسع من مجتمعاتنا، بما يوحي من غير شك بأن معركتنا ليست أبدا منحصرة في دحر احتلال أو استبداد أو إرهاب، لأن شيئا لا يضمن عودتنا إلى نقطة الصفر في كل معركة، طالما أن هنالك ما يعد دائما بإعادة توليد تلك الأمراض جميعها وبأشكال مختلفة. سأل مراسل إحدى الفضائيات العربية سيدة من غزة عن رأيها في ما يحدث ومآله على أهل المدينة، أجابت بابتسامة واثقة، لا يهم، المهم أن تبقى القضية الفلسطينية!وبالمنطق نفسه، الذي لا ينقصه غير المنطق، تدار سياساتنا وتحكم رؤيتنا لأنفسنا والعالم، لم يعد الأمر إفراغ الشعارات من محتواها، بل إشباعها بالمحتوى بحيث تسقط مع حامليها إلى الهاوية، وليس بعد ذلك فراغ، بل هو العنف المعمم الذي يهدد بأن ينظم علاقاتنا الإنسانية والاجتماعية والثقافية جميعا، والعنف المعنوي المتمثل في شماتة ببقايا إنسان تم تفجيره، أو برغبة في التخلص من خصم سياسي أو فكري، ليس أقل وطأة من العنف المادي المعهود، بل لعله أشد وطأة لأنه يخفي أكثر مما يظهر. نعم نريد حرية وديموقراطية، لكن من غير أن ننسى أنهما أكثر من تحرير أرض أو تبييض سجون أو انتخابات حرة نزيهة. هي ثقافة قبول للآخر قبل أي شيء، لا تني تتضاءل أكثر فأكثر بين النخب الحاكمة والجماعات السياسية على اختلافها، وتمتد أكثر فأكثر بين عموم الناس وداخل وعيهم. لم يعد الوقت مناسباً للتوفيق والتلفيق، ولنخبنا التي تبارك عنفا سلطوياً أو أصولياً أو «نضاليا» في سبيل «القضية»، أن تقف قليلاً لتراجع نفسها، لأن ما شاركت في تأسيسه من وعي شعبي - مع مجمل الظروف الأخرى- يكاد يذهب بما تبقى، وقد بقي الأهم والأكثر مركزية وجوهرية، الإنسان بما هو محبة وإبداع ووعي خلاق. هي «القضية» الكبرى، التي لاتزال تنتظر من يناضل من أجلها في عالمنا العربي الغارق في تعبه. كاتبة سورية
مقالات
من أجل القضية
25-06-2007