ما قل ودل:الشبهة الدستورية في دعم الخطوط الجوية الكويتية
ليس من العدالة، أن تدعم الدولة مؤسسة عامة ذات طابع اقتصادي وتجاري، تدخل في مضمار المنافسة مع النشاط الخاص الذي يؤدي الخدمة ذاتها للأفراد، وأن تمنح الدولة هذه المؤسسة ميزة احتكار سفر قطاع كبير من الركاب على خطوطها، بالرغم من مخالفة ذلك روح الدستور الذي ينهى عن الاحتكار.
المصادفة وحدها كانت سبباً في تكليف مرسي فرحات بحقيبة وزارة التموين في مصر، فقد اكتشف مصطفى النحاس باشا، عندما وقف يتفرس وجوه الوزراء الذين اصطفوا أمامه في قصر عابدين، قبل مثوله ومثولهم أمام جلالة الملك لحلف اليمين، أن مرسي فرحات، لم يكن بين الوزراء، وأن مدير مكتبه الذى كُلف بإجراء الاتصالات التلفونية بالوزراء لإبلاغهم بموعد حلف اليمين، قد اتصل بالشخص الخطأ الذي يحمل الاسم ذاته، والذي كانت بطاقته على مكتب المدير، تركها على مكتبه أحد البسطاء من الناس لتشفع له في الخدمة التي جاء يطلبها، فشفعت البطاقة بحقيبة وزارية لمرسي فرحات بدلاً من عشرة أمثالها.كما لعبت المصادفة دورها في اختيار الطيار الحربي أحمد نوح وزيراً للطيران المدني، عندما رآه الرئيس الراحل أنور السادات، وهو ينزل من الطائرة التي كانت تقله إلى الجزائر والتي اضطرت إلى العودة إلى مطار القاهرة بعد اقلاعها بدقائق لوجود عطب فني فيها، فاستدعاه الرئيس الراحل في المطار حيث كان يقف ليكلفه بوزارة الطيران.وبدأ احمد نوح رحلة المتاعب مع «مصر للطيران» للنهوض بها، وتعزيز قدرتها على منافسة شركات الطيران العالمية، بإصدار قراره بإلغاء تأشيرة (ط . ب) التي كان يؤشر بها على جوازات سفر المكلفين بمهام رسمية، وغيرهم من المواطنين الذين يحصلون على إذن للسفر إلى الخارج، سواء للعلاج أو الدراسة أو لغير ذلك من أسباب مختلفة، حيث كانت هذه التأشيرة تمنع سفر الموظف أو المواطن على غير طائرات «مصر للطيران».فقد اعتبر أحمد نوح أن هذه التأشيرة تمثل دعماً غير مشروع لشركة «مصر للطيران»، ينطوي على إخلال بقواعد المنافسة المشروعة بين الشركة والشركات الأخرى، أدى إلى عدم اهتمامها بتحسين خدماتها في مضمار سباقها مع هذه الشركات.وحفرت هذه الواقعة فى ذاكرتي وذهني صورة الرجل الوزير الذي اتخذ قراراً متسماً بالمصداقية والشجاعة والمسؤولية، واستعدتها وأنا أتابع السجال الذي دار في مجلس الأمة حول ميزانية مؤسسة «الخطوط الجوية الكويتية» والانتقادات التي وجهت إلى خدماتها، والخسائر التي لحقت بها ومطالبة بعضهم بخصخصتها، وأطل هذا القرار برأسه عندما تذكرت دعماً حكومياً مماثلاً للخطوط الكويتية، يتمثل في التزام الجهات الحكومية والمؤسسات والهيئات العامة بسفر موظفيها على هذه الخطوط في المهام والدورات والمؤتمرات والإجازات واستقدام الوافدين وسفرهم في إجازاتهم وعند انتهاء عقودهم، وما يزيد الطين بلة، هو أن الحكومة تدفع ثمناً لهذه التذاكر أكثر مما يدفعه الأفراد ثمناً لها يصل إلى الضعف في بعض الأحيان.وهي مفارقة لا أجد لها مبرراً واحداً في مؤسسة نص قانونها على أن تدار بأسس تجارية، وألف باء هذه الأسس أن يتمتع العميل الرئيسي بنسبة خصم على قيمة التذاكر تتناسب وحجم مشترياته، وما يوفره على البائع من نفقات التسويق والتحصيل، لا أن يدفع ثمناً أكبر مما يدفعه غيره.ويصل تدليل المؤسسة إلى مداه في التزام الحكومة بتغطية خسائر المؤسسة كل عام ، إعمالاً لأحكام القانون رقم (21) لسنة 1965، وهو ما حال دونه في السنوات الماضية عدم إقرار مجلس الأمة الحسابات الختامية للمؤسسة لسنوات عدة، وهو الإقرار الذي اعتبرته وزارة المالية شرطاً لسداد هذا العجز مما أدى إلى اقتراض المؤسسة من البنوك لتغطية العجز وتحملها فوائد كبيرة، وزيادة الخسائر تبعاً لذلك. وهو دعم يطرح قضية دستورية مهمة بشأن التعاون بين القطاع العام والقطاع الخاص، والذي وصفه الدستور بالتعاون العادل فيما نصت عليه المادة (20) من الدستور من أن «الاقتصاد الوطني أساسه العدالة الاجتماعية، وقوامه التعاون العادل بين النشاطين العام والخاص».فليس من العدالة، أن تدعم الدولة مؤسسة عامة ذات طابع اقتصادي وتجاري، تدخل في مضمار المنافسة مع النشاط الخاص الذي يؤدي الخدمة ذاتها للأفراد، وأن تمنح الدولة هذه المؤسسة ميزة احتكار سفر قطاع كبير من الركاب على خطوطها، بالرغم من مخالفة ذلك روح الدستور الذي ينهى عن الاحتكار فيما نصت عليه المادة (153) من أن «كل احتكار لا يُمنح إلا بقانون وإلى زمن محدود» وقد فسر الخبير الدستوري بالمجلس التأسيسي الاحتكار فى هذا النص بأنه الاحتكار القانوني عندما تمنح الدولة امتيازاً لشخص معين أو شركة معينة ولا تمنح امتيازاً مماثلا فى المكان نفسه لغيره (مضبطة المجلس التأسيسي الجلسة 22 ص 26 و 27).كما أنه ليس من العدالة أن تتحمل الدولة بالرغم من كل هذا الدعم الذي تقدمه للخطوط الجوية الكويتية بخسائرها في كل عام.والسؤال الذي يطرح نفسه، هل كان هذا الدعم غير المحدود من الحكومة للمؤسسة سبباً فيما تعانيه من خسائر واخفاقات وتدني خدمات، وهل آن الأوان لإصدار قرار مماثل للقرار الذي أصدره وزير الطيران المصري بحرية السفر على شركات الطيران كافة للموظفين ولغيرهم. ***استدراك:ورد في نهاية مقال الكاتب الاثنين الماضي (عدم حلف اليمين في التحقيق البرلماني) خطأ مادي لا يخفى على فطنة القارئ هو سقوط كلمة «لا» من عبارة « الأمر لا يجوز معه القياس على ما يجري في التحقيق الجنائي من قيام الشهود والخبراء بحلف اليمين» لذا لزم التنويه إليه.