في الفصل الثاني المعنون بـ «ولادة حماس» يواصل الصحافي الفلسطيني زكي شهاب تسليط الضوء على ظروف نشأة وولادة حركة المقاومة الإسلامية (حماس)، ودور مؤسسها الروحي الشيخ أحمد ياسين في إطلاق الحركة إلى الوجود، وجهوده في حشد التأييد والدعم لها من خلال شخصيته.

Ad

كما يتطرق هذا الفصل من كتاب «حماس من الداخل»، الذي تنشر «الجريدة» حلقاته، إلى السر وراء الإعاقة الدائمة التي ظل عليها الشيخ ياسين منذ طفولته حتى اغتياله.

عند الساعة الثانية إلا عشر دقائق من بعد ظهر يوم السادس من يونيو 1989، انهار الشيخ أحمد اسماعيل حسن ياسين، وهو أحد سكان مدينة غزّة، لدى سماعه أثناء وجوده في سجن غزّة المركزي، أصداء الضربات التي اعتقد أن ابنه عبد الحميد يتعرّض لها على أيدي سجانيه الإسرائيليين.

كان قد خضع للتعذيب لأيام عدّة، وهذا ما دفع بالشيخ المُقعد أخيراً إلى تقديم اعتراف كامل عن دوره في إطلاق حركة حماس، حيث كان سبق له أن أنكر كونه «أبا» لحركة حماس، إلا أن الاعترافات التي كتبها رفاقه تحت الضغط والتي وضعته في دائرة الشبهات، مضافةً إلى تعذيب ابنه، أجبرت الشيخ على تغيير موقفه.

أحد الجلادين استدعى المحقق الإسرائيلي شوكي أمزايج الذي يحمل الرقم 54962، وقال له إن الشيخ ياسين أصبح جاهزاً للاعتراف، تزوّد أمزايج بقلم وأوراق، وباشر حثّ الشيخ على الكلام... وبدأ الاعتراف.

حياة ياسين

ولد الشيخ أحمد ياسين عام 1938 في قرية الجورة القريبة من مدينة المجدل الساحلية، في ما كان يعرف تحت الانتداب البريطاني، بفلسطين الجنوبية.

المجدل هي اليوم مدينة عسقلان الاسرائيلية، لكن لايزال يُشار إلى السجن الذي أقيم فيها باسمه الفلسطيني القديم، توفي والده عبدالله وهو لم يتجاوز السنوات الثلاث من العمر، أصبح معروفاً في الحيّ بأحمد سعدى نسبةً إلى والدته سعدى الهبيل، سُمّيَ هكذا لتمييزه عن أولاد أبيه من زوجاته الثلاث الأخريات، كان للشيخ ياسين أربعة أخوة وأختان، فرّوا جميعاً مع أمهاتهم من القرية إلى غزّة خلال نزاع عام 1948، وأصبحوا لاجئين في مخيم الشاطئ القريب من البحر، في القسم الشمالي من مدينة غزّة. في ذلك الوقت، كان المخيم المكتظ يأوي 23 ألف لاجئ، محصورين جميعاً في مساحة تقلّ عن الكيلو متر المربع الواحد.

سر إعاقته

مرّت سبع وثلاثون سنة قبل أن يبوح ياسين لعائلته بالقصة الحقيقية للحادث الذي غيّر مجرى حياته عام 1952، وتسبّب بشلله، فالحقيقة أنه أصيب أثناء مصارعته أحد أصدقائه واسمه عبدالله الخطيب. كان الشاب ياسين خائفاً، فلم يفصح عن هوية الصبي، خشية أن يسبّب ذلك خلافاً بين العائلتين، واختلق قصة مفادها أنه أصيب بهذه الجروح والكدمات أثناء ممارسته لعبة الوثب المتبادل مع زملائه في حصة الرياضة على الشاطئ، بقي عنقه مثبتاً بالجص طيلة خمسة وأربعين يوماً، وبعد إزالة هذا الطوق، تبيّن أنه سيمضي بقيّة حياته مقعداً، كان عموده الفقري قد تأذى، مسبّباً له شللا ً حادّاً في معظم أنحاء جسده، جعله عاجزاً عن المشي أو حتى عن الإمساك بقلم حبر أو قلم رصاص، برغم أنه قدّم طلباً للدراسة في جامعة الأزهر في القاهرة، غير أنه لم يتمكن من متابعة دروسه بسبب تردّي حالته الصحيّة، فاضطرّ إلى الدراسة في المنزل، ما جعله يوسّع نطاق قراءاته لتشمل خصوصاً، المسائل الفلسفيّة والدين والسياسة وعلم الاجتماع والاقتصاد، شمولية ثقافته جعلت منه، وفقاً لقناعة أتباعه، واحداً من أفضل الخطباء في قطاع غزّة، فكانت خطبته الاسبوعية تستقطب حشوداً ضخمة أيام صلاة الجمعة.

بعد سنوات من البطالة، حظي ياسين بوظيفة مدرّس للغة العربية في مدرسة الرمال الابتدائية في غزّة، كان للمدير محمد الشوّا تحفظات حيال الاستقبال الذي سيلقاه الشيخ من التلاميذ، فقد تخوّف من ردود فعل الأطفال التي غالباً ما تكون سمجة إزاء العجز، لكنه أعلن لاحقاً أن ياسين تعامل معهم جيّداً، فازدادت شعبيته، لاسيما في أوساط الطلاب المثقفين، وأثارت أساليب تعليمه ردود فعل متفاوتة لدى الأهل الذين لاحظوا أن أولادهم أصبحوا توّاقين لارتياد المساجد وتحصيل التعليم الديني، وفيما الغالبية منهم كانت سعيدة بالأمر، فإن قلـّة سجلت اعتراضات لدى المدير. يتذكّر الشوّا أحد الآباء الذي قال له إنه موافق على زيارة ابنه للمساجد بهدف تحصيل العلوم الدينية، «لكن هذه الوتيرة السريعة والمكثفة لارتياد المساجد في هذا العمر المبكّر أي بعدل مرّتين في الأسبوع، ...(بما أن الشيخ ياسين كان ينصحهم بالذهاب يومي الاثنين والخميس إلى المسجد) غير مقبولة».

ساند المدير المدرّس، فاحتفظ ياسين بوظيفته، بل أصبحت وظيفة ثابتة، الأمر الذي منحه استقراراً ماديّاً، وشجعه على الزواج من إحدى قريباته، حليمة حسن ياسين، في عام 1960، وهو في الثانية والعشرين من العمر، وأنجبا معاً ثماني بنات وثلاثة أولاد.

ساهم الشيخ ياسين في نموّ الحركة الإسلامية في فلسطين، لاقتناعه بأن تلاميذه يجب أن ينالوا تربية إسلامية ويفهموا معنى الجهاد. لكنه كان يعي أيضاً قيمة منحهم ثقافة شاملة.

تحدثت إلى كثيرين من جيله، بمن فيهم الأخ بدر الذي قال لي في عام 1992، إن الشيخ شجّع الشباب على تنظيم فرق رياضية والمساهمة في الوظائف الاجتماعية والثقافية، إضافة إلى تحصيلهم الدراسة الدينية.

بعد الثورة المصرية وما أعقبها من اعتقالات جماعية لأعضاء في حركة الإخوان المسلمين، وسّع الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر نطاق إجراءاته الصارمة بحق المنظمة المحظورة لتشمل قطاع غزّة الذي كان آنذاك يخضع للسيطرة المصرية، في العام 1966، تمّ توقيف أعداد كبيرة من الناشطين الفلسطينيين، إذ أن كل شخص يتعاطى السياسة الإسلامية كان موضع شك، وكان الشيخ أحمد ياسين من بين الذين تم اعتقالهم، فقد اتهم مع مجموعة من الشبان الفلسطينيين، بمحاولة قلب النظام في مصر.

بعد سنوات واصل خلالها ياسين الخطابة في المساجد، وتحديداً في يونيو 1967، شنت إسرائيل ما بات يعرف بحرب الأيام الستة، التي يطلق عليها الفلسطينيون تسمية «النكسة». أسفرت هذه الحرب عن فرض إسرائيل سيطرتها على قطاع غزّة بدلا ً من الحكومة المصرية، وعلى الضفة الغربية التي انتزعتها من الأردن، إضافة إلى احتلالها هضبة الجولان السورية.

انطلاقاً من مسجد الشاطئ، باشر ياسين في توسيع رقعة نداءاته، مكثفاً حضوره في مساجد أخرى في المنطقة، وبات صوته الأكثر شهرة في قطاع غزّة، وبدأ بجمع التبرّعات، واضعاً صناديق صغيرة في المساجد لمساعدة المحتاجين والفقراء.

نشط ياسين في الأوساط السياسية الإسلامية في غزّة منذ السبعينيات. كما أعضاء «حماس» الأوائل، تأثر بأفكار الإخوان المسلمين الثوريّة، الذين أنشأوا هذه المنظمة كحركة إسلامية تجديدية، على أثر انهيار الإمبراطورية العثمانية، في مواجهة ما اعتبروه العلمانية الزاحفة وتغريب مصر.

الشيخ يتحرك تنظيمياً

أسس الشيخ ياسين، عام 1976، جمعية إسلامية، وفي عام 1978، برزت الحاجة إلى قيام مؤسسة أكبر وأفضل تنظيماً، لترويج القيم الإسلامية داخل المجتمع الفلسطيني، الأمر الذي يعتبره الإسلاميون مرتبطاً ارتباطاً عضويّاً بمقاومة إسرائيل. في ذلك العام، ساهم ياسين في إنشاء مؤسسة أخرى اطلق عليها اسم «المجمّع الإسلامي»، أوّل عمل قام به ياسين بصفته رئيساً لهذه المؤسسه بين عامي 1973 و1983، (خلفه في هذا المنصب إثر سَجنه أحد رفاقه من مؤسِّسي حماس هو الدكتور ابراهيم علي اليازوري)، تمثل بتسجيلها في دوائر السلطات الإسرائيلية، مُنح الترخيص في غضون ساعتين، إنما بعد أقل من ساعة، أتى الإسرائيليون إلى الشيخ ياسين وسحبوا موافقتهم، مدّعين أنّ خطأ قد حصل، وأُقفل المسجد والحضانة التابعة له، واقتيد الشيخ ياسين والحاج أحمد دلول، وهو عضو آخر في المؤسسه، إلى التحقيق، بتهمة جمع تبرّعات وإنشاء مؤسسة من دون إذن.

شكّل القرار الإسرائيلي القاضي بمنح رخصة إلى المجمّع الإسلاميّ، برغم ما اعترضه من إعادة تقويم واضحة للعيان، مؤشراً لما ستكون عليه السياسة الإسرائيلية غير المعلنة ولكن الرسمية.

كانت الحكومة الإسرائيلية تنظر إلى منظمة التحرير الفلسطينية ذات المنحى الوطني والعلماني، على أنها عدوّها اللدود، وكانت تعتقد أنها ستستفيد من تداعيات التنافس الذي سيقوم حتماً بين المجموعات الإسلامية، التي سمحت لها بالتكاثر والازدهار، والمنظمات الفلسطينية الأخرى، بما فيها منظمة التحرير الفلسطينية التي هي على طرف نقيض مع تلك المجموعات الإسلامية، فلا يعود من داع ٍ لتدخل إسرائيلي مباشر على الأرض.

في سياق مقابلة معه في مكتبه في غزّة، قال لي مستشار عرفات للشؤون الأمنية محمد دحلان، إن أعضاء في الكنيست سألوا إسحق رابين، وزير الدفاع في حكومة إسحق شامير الائتلافية، عن الدعم المفترض الذي يمنحه لـ «حماس» من خلال تمويل المجمّع الإسلاميّ ونشاطاته، جاء جواب رابين مقتضباً، مؤكداً أن ذلك كان تكتيكاً «لتقويض تأثير منظمة التحرير الفلسطينية». وسئل من قبل عضو آخر في الكنيست عن احتمال عمل «حماس» ضدّ إسرائيل، فردّ رابين: «يمكن مناقشة هذا الموضوع لاحقاً».

كان من المفترض أن تتركز نشاطات المجمّع الإسلاميّ، وفقاً لما تحدّده رخصته، على الرياضة، لكن عملياً، ووفقاً لما اعترف به ياسين، «إننا ننشر رسالة الإسلام، نحفـِّظ القرآن، نبني المساجد والمدارس والعيادات الطبيّة».

عندما أدرك الإسرائيليون طبيعة الأعمال التي التزم المجمّع القيام بها، فرضوا قيوداً قوّضت نطاق المسموح بممارسته، وبرغم ذلك، سرعان ما أصبح المجمّع أكبر مؤسسة في غزّة.

«لم تتوافر لدينا فعليّاً البنية التحتيّة الضرورية لتنفيذ عمليات عسكرية»، كما شرح ياسين في لقاء لي معه في منزله في محلة جورة الشمس في يناير 1999، «لكن في الثمانينيات، كانت قد زادت قوّتنا وبدأنا بتجميع السلاح، العديد منا سُجن بسبب ذلك، لكن عند إطلاق سراحنا عام 1985، كنا قد طوّرنا استراتيجية محدّدة المعالم. حضّرنا أنفسنا وبدأت الانتفاضة».

عام 1983، كان ياسين وقادة آخرون في المجمّع الإسلامي في صدد البحث عن عتاد لتسليح جناحهم العسكري، «مجاهدي فلسطين»، الذي كان ياسين قد أسّسه في العام المنصرم. لم يكن هؤلاء ضليعون بكيفية التزوّد بالسلاح، ما جعلهم عرضة لمراقبة جهاز الاستخبارات الإسرائيلي (الشين بيت). فقد نجحت الاستخبارات الاسرائيلية في اختراق صفوف المجمّع الإسلاميّ وساهمت في عملية تزويد الجناح العسكري بالسلاح (أي بتعبير آخر، نصبت لأفراده الكمائن). نتيجة لذلك، تمّ توقيف الشيخ ياسين والدكتور ابراهيم المقادمة وعبد الرحمن تمرز ومحمد شهاب ومحمد عرب مهارة وآخرين، لحيازتهم أسلحة.

هذه التجربة علـّمتهم أن عليهم توقيت الأمور بدقة، إن هم أرادوا التحرّك تحت نير الاحتلال الإسرائيلي، وعدم استئناف تطوير الجناح العسكري، إلا عندما تنضج الظروف الاجتماعية والسياسية لذلك.

الانتفاضة

مع بدء الانتفاضة، تمكّنت مختلف الحركات الإسلامية التي انضوت تحت جناح «حماس»، من فرض نفسها (مع قليل من الدعم الاسرائيلي) كقوة فاعلة في السياسة الفلسطينية، تتمتع برؤية واستراتيجية مختلفتين جذريّاً عن «فتح»، إلا أنها كانت تفتقر إلى الوحدة والإدارة والتوجيه والاستراتيجية العسكرية المتماسكة، بغضّ النظر عن حيازتها على السلاح. كان ذلك، في جزء منه، انعكاساً لانقسام المجتمع الفلسطيني.

عندما انفجرت الانتفاضة فجأة في مخيم جباليا في 8 ديسم بر 1987، سنحت الفرصة لـ «حماس» أن تحدّد ماهية توجهها العسكري. «اعتدنا أن ننتظر هكذا فرص من أجل تصعيد نزاعنا مع العدو، ويشجعنا على ذلك الدعم والتوافق المتزايدان»، كما شرح لي لاحقاً الشيخ دخان.

في هذا الظرف المفصلي، أثارت حياة ياسين اهتمام المحققين الإسرائيليين في سجن غزّة المركزي، حاورت محامي ياسين في ما بعد، وتمكنت من الاطلاع على المضمون السريّ لاعترافه. قصة تأسيس «حماس» وما لياسين من دور فيها، مسألة معقـّدة، وتفاصيلها لا تزال تثير اعتراضات مختلف المعنيين، لكن ارتباط الاثنين، أي نشوء «حماس» واضطلاع ياسين بدور في تأسيسها، أمر لا يرقى إليه شك.

لقد أمعن المحققون الإسرائيليون في الاستماع إلى الشيخ ياسين المُُقعد في كرسيّه، وهو يصف، بصوته الرفيع الحاد المميّز، ظروف ولادة الحركة:

«قبل شهرين من انطلاقة الانتفاضة في ديسمبر 1987، التقيت الشيخ صلاح شحادة الذي تعرّفت إليه للمرّة الأولى في سجن المجدل، كنت قد قرّرت إنشاء حركة في غزّة للعمل ضدّ سياسة الاستيطان الاسرائيلية ومقاومة الاحتلال وتشجيع الفلسطينيين على المشاركة في جهود المقاومة ضدّ إسرائيل». ويتابع الشيخ ياسين روايته: «أثناء اجتماعنا، اتفقنا على إقامة جناح مسلح وجناح أمني لهذه الحركة الإسلامية الجديدة، على أن يتولى الجناح العسكري محاربة الجيش الإسرائيلي المحتل، فبنى صلاح شحادة هذا الجناح، وكان الهدف جمع أسلحة لاستخدامها في النضال، وكُلـِّف الجناح الأمني بمراقبة وتوقيف المخبرين الفلسطينيين وتجار المخدرات وبائعات الهوى ومنع بيع وشرب الكحول في الأراضي الفلسطينية».

سر تسمية «حماس»

يتذكر الشيخ ياسين أنه «في بدايات شهر ديسمبر 1987، شكّلت مجموعة من الأشخاص لتناقش مسألة إنشاء الحركة. حضر الشيخ صلاح شحادة (40 عاماً) وهو من بيت حانون ويعمل في الجامعة الإسلامية في غزّة، وعيسى النشّار وهو مهندس في الخامسة والأربعين من رفح، والدكتور ابراهيم اليازوري، وهو طبيب صحة عامة من غزّة في الأربعين من عمره، والدكتور عبد العزيز الرنتيسي، طبيب صحة عامة في الأربعين من عمره من خان يونس، وعبد الفتاح دخان، مدير مدرسة من مخيّم النصيرات، ومحمد الشمعة وهو مدرّس في الخمسين من العمر من مخيم الشاطئ». أما كيف وقع الاختيار على اسم «حماس»، فيفيد ياسين أنه «خلال هذا الاجتماع، اتفقنا على تسمية الحركة «حماس» كتصغير لعبارة «حركة المقاومة الإسلامية». كما تقرّر أن يكون كل واحد منا مسؤولا ًعن المنطقة التي يقطن فيها، كان عليّ أن أترأس حركة حماس في قطاع غزّة».

اجتمعت قيادات مختلف الاجنحة تحت مظلة اسم «حماس» في الحفل الذي خصص لإطلاق التسمية على الحركة الوليدة.

كان ذلك الحفل أشبه بعملية سحب بالقرعة أعقبت مداولات مستفيضة تناولت مجموعة كبيرة من الهويات البديلة. وخرج الجسم التنظيمي السياسي إلى الحياة العامة بصفة حركة المقاومة الإسلامية، التي اختصرت إلى تصغير تمثل بحروف (ح م س) هي الحروف التي تستهل كلمات التسمية العربية الأساسية «حركة المقاومة الإسلامية». ورد أخيراً اقتراح بأن تصبح التسمية «حماس»، وهي كلمة عربية تعني «الاندفاع» الذي يجسّد قيم شعار منظمة الإخوان المسلمين: «حق! قوّة! حرية!»

وأضاف الشيخ دخان تفسيراً آخر للاسم المختار «إن اسم حماس أقل إثارة للتهديد. كنا نريد شيئاً لا يخلق انطباعاً أننا منظمة تحارب الإسرائيليين، بل يخفف من حدّة المواقف المناهضة للإخوان المسلمين المقيمين في الخارج، لقد رغبنا أيضاً بتجنب أيّ ردّة فعل سلبية قد تصدر عن الحكومات العربية الأخرى. حماس هي حركة مقاومة، وكما شدّدنا على ذلك في ميثاقنا، إنها ائتلاف لا يرتبط فقط بمنظمة الإخوان المسلمين، إنما هو قادر على استيعاب كل منظمات المقاومة الفلسطينية وأنصارها وأصدقائها.

في تقويم ياسين الوارد في اعترافاته، كما في مقابلاته اللاحقة معي، شكلت واقعة جباليا مجرّد حادث، إذ اعتبر ياسين أنه قاد الانتفاضة بنفسه باسم «حماس».

أما في حسابات أخرى كالتي اعتمدها صلاح شحادة، فإن واقعة جباليا حدث محوري أدّى مباشرة إلى تشكيل «حماس».

في السادس من ديسمبر 1987، طـُعن مستوطن إسرائيلي حتى الموت في المنطقة التجارية الرئيسية في غزّة، وبعد يومين، انحرف سائق شاحنة إسرائيلي مدنيّ عن مساره، واصطدم بسيارة آتية قبالته تقلّ عمّالاً عرباً، في ما صار يعرف بحادثة «مقطورة»، مات أربعة عرب وأصيب الآخرون بجروح بليغة. أذيعت أخبار الحادث عبر أجهزة الراديو، وانتشرت شائعات بشأن جباليا كما النار في الهشيم، مفادها أن ما قيل عنه إنه حادث، هو في الحقيقة انتقام متعمّد نفذه أحد أقرباء الإسرائيلي الذي طـُعن قبل يومين.

الولادة من رحم «الإخوان»

في ذلك اليوم من شهر ديسمبر، دُعيت الهيئة العامة لحركة الإخوان المسلمين في قطاع غزّة، التي كان الشيخ ياسين أحد أعضائها، إلى اجتماع طارئ لمناقشة الأحداث التي وقعت في مخيم اللاجئين في جباليا، وصف صلاح شحادة، القائد المعيّن للجناح العسكريّ في قطاع غزّة، في مذكّراته ليلة ولادة حماس «اليوم الثامن من ديسمبر 1987 هو أحد أيام الله. إنه إحياء ذكرى بداية جديدة ستشعّ ضياءً عبر تاريخ الأمة الإسلامية».

الدكتور عبد العزيز الرنتيسي، الذي خلف الشيخ ياسين بعد اغتياله، وقبل أن يتم اغتياله أيضاً في ما بعد، أكد أن الاجتماع الأول لإطلاق «حماس» عقد في منزل الشيخ ياسين في التاسع من ديسمبر 1987، وشرح الرنتيسي أن «حماس» كانت فرعاً من حركة الإخوان المسلمين الشاملة، وأصدرت أول بيان لها في 14 ديسمبر. حتى ذلك التاريخ، لم يكن هناك جبهة موحّدة تقود الانتفاضة في الضفة الغربية وغزّة. أوقف الإسرائيليون الرنتيسي لمشاركته في تأسيس حماس وتوزيعه بيانات.

لقد وصف الرنتيسي كيف أن «حماس» وضعت نصب عينيها تولي السلطة السياسية «كما العديد من الحركات الناجحة، بدأت من الصفر ولم تكن في البداية، منظمة عسكرية.»

كان من المقرّر أن يبدأ الاجتماع الطارئ في الساعة الثامنة مساءً، إذ يوفر مساء الشتاء المعتم ظروفاً أمنية فضلى. وصف صلاح شحادة الجوّ السائد في تلك الليلة من شهر ديسمبر بـ «البارد، إلا أن الدم الذي كان يدبّ في عروقنا كان كفيلاً بمنحنا الشعور بالدفء».

قوّم الأعضاء السبعة ما حصل في مخيّمات وشوارع قطاع غزّة، فكانوا متفقين على ضرورة تصعيد المواجهة بجميع أشكالها.

أعلن شحادة أنه توصّل إلى خطة «لإشعال النار في كامل قطاع غزّة ومهاجمة الإسرائيليين، ليس فقط بقيام الشبان برشقهم بالحجارة، ولكن بتجنيد كل الشعب الفلسطيني في عمل ذي منحى عسكري».

طوال فترة محاكمته التي دامت سنة، شرح الشيخ ياسين للمحقق الإسرائيلي كيف تمّ إنشاء فرع «حماس» في الضفة الغربية «في يناير 1988، قام جميل حمامي، العضو في حركة الإخوان المسلمين في الضفة الغربية، بزيارة ياسين في منزله في غزّة. كان حمامي يعمل ويدرّس في معهد أبو ديس للشريعة وعيّن لاحقاً قيّماً رئيسياً على مدينة بيت لحم، كان يتمتع بشعبية كبيرة على مستوى القاعدة. سأله الشيخ ياسين: لماذا لا تساهم في الانتفاضة بالضفة الغربية؟»، فوافق على إنشاء فصيل هناك.

تسمية الأقسام

قبل قيام الانتفاضة، كان كلّ جناح من أجنحة «حماس» يعمل بشكل مستقلّ عن الآخر، من دون تمتع أيٍّ منها بأسماء أو أجندات محدّدة.

بعد الاجتماع التأسيسي في 8 ديسمبر 1987، باتت تلك الأجنحة منضوية ضمن هيكلية تنظيمية موحّدة، وقد خصّص كل واحد منها بوظائف معيّنة تشمل مجالات السياسة والاتصالات والأمن والشباب والانتفاضة والسجناء.

القائد القسام... مصدر إلهام

تحوّل قتال الشيخ عزّ الدين القسّام ضدّ الاحتلال البريطاني إلى مصدر لإلهام «حماس» في معركتها الخاصة ضدّ قوات الاحتلال الاسرائيلي، وقسّمت «حماس» تنظيمها إلى وحدات قيادة منفصلة بعضها عن بعض، كل واحدة منها تتكفّل باتمام وظائف عدّة، تماماً كما فعل القسّام. وفي لفتة رمزيّة، اعتمد اسمه كنيةً لجناح حماس العسكري.

خلافاً لفصائل فلسطينية أخرى، افتقر أعضاء «حماس» إلى الخبرة والقدرة على خوض الحملات العسكرية، بما أن ثقافة حركة الإخوان المسلمين التي نشأوا عليها لم تكن صدامية عموماً، كان ذلك لمصلحتهم في المراحل الأولى، إذ خلق لدى الإسرائيليين انطباعاً خاطئاً، فلم يتعرّضوا لهذه الحركة اليافعة ذات النشاطات الثقافية السلمية ظاهرياً.

والد الحركة

شكّل وجود قائد قوي تتوحّد حوله الحركة اليافعة ضرورة في الأيام الأولى لنشوء «حماس» وانطلاق الانتفاضة، والشيخ أحمد ياسين صاحب الكاريسما الساحرة التي يعزّزها علمه وتقشفه وشجاعته، طابق المواصفات.