من الصيام إلى المجتمع الفاضل

نشر في 30-09-2007
آخر تحديث 30-09-2007 | 00:00
 د. محمد السيد سعيد

ما نفتقر إليه في العالم العربي والإسلامي أن المجتمع لم يطرح على ذاته مشروعات قوية تقوم على نشر الفضائل المدنية وتغرسها في نفوس الناس. واكتفت أغلبية المشروعات المطروحة على المجتمعات العربية والإسلامية المعاصرة بالتركيز على المستوى السياسي، وفي أفضل الأحوال بالإشارة إلى تفضيلات متباينة للنظم الاقتصادية المتنافسة.

لا بد أن أكثرنا لاحظ المفارقة بين «الروح الرمضانية» و«الحالة المدنية الفعلية» في رمضان. تلحظ هذه المفارقة في طرقات مدينة مزدحمة مثل القاهرة. يجري الناس بسياراتهم دون أدنى مراعاة لحقوق المارة وحقوق الآخرين عموما، أو لما يسمى في كل اللغات الكبيرة «حق الطريق»، وهو تعبير لطيف ودال على قيمة أوسع هي «الحق العام». والمفارقة هي أنهم يجرون بعصبية بسبب الصيام أو للحاق بطقس الإفطار! وكأن القيمة الأعمق في الصيام قد غابت، أو أن الصيام قد أنتج عادات واقعية معاكسة لما يعنيه من قيم وفضائل.

ويمكنك أن تلاحظ المفارقة في حقائق أعمق وإن كانت مستورة أو مخفية في تضاعيف حياتنا سواء في المدن المزدحمة أو الهادئة، وسواء في البيوت الخاصة أو في المجال العام لو أنك اخضعت هذه الحياة لأبسط صور التأمل والتحليل.

لا تقع المفارقة بين الديني والمدني بذاتهما. فالأصل أن الفضائل المدنية أحد أهم الأهداف إن لم تكن الهدف المباشر من التكليف الديني. بل تنشأ المفارقة من الطريقة التي نفهم بها التكليف الديني كالصلاة والصيام. ولا شك أن غلبة الجانب أو التعبيرات الطقسية على إدراك الناس لهذه التكاليف يجرف ويحرف ممارستها بعيدا عن أصلها وهدفها ودلالتها وقد يذهب بها إلى نقيض أو عكس هذا الأصل والدلالة. يحدث ذلك مثلا بصورة فجة للغاية في شتى صور العنف والقتل العشوائي والاستهدافي الذي يمارسه المتطرفون باسم الإسلام ضد عموم الناس، أو ضد المؤمنين بأديان أو مذاهب أخرى في الإسلام أو ضد من شاؤوا من «الأغيار».

هذا التحريف ليس مشكلة فردية، إذ ان طبيعة المجتمع ومشروعه الفكري والاجتماعي والسياسي هي ما يحكم ممارسات الناس وتصرفاتهم، ومن هذه الزاوية لا يمكن حل المفارقة بين التكليف الديني والممارسات الاجتماعية إلا من خلال مشروع بناء مجتمع جديد وعبر أطروحات بذاتها تعالج مختلف مستويات الفعل الاجتماعي وخصوصا المستويين المدني والسياسي.

المشروع المدني

وفي حياة المسلمين عبر العصور مشروعات كثيرة تضافر بعضها مع بعض أو اصطدم معه سواء على المستوى السياسي أو على المستوى المدني البحت. وترتب على تضاعيف هذا التاريخ أن المجتمعات العربية والإسلامية نجحت في استيعاب بعض الفضائل الشخصية والمدنية، وفشلت في استيعاب بعض الفضائل الأخرى بالرغم من أن التكاليف الدينية تحث عليها أو يمكن أن تنتجها بصورة منهجية أي عبر أدوات وطرق عمل وفنون راسخة ثقافيا. ونتيجة لذلك نشأت المفارقة الأعظم في حياة الشعوب العربية والإسلامية اليوم، وهي أن حياتها الفعلية لا تعكس، سوى قليل، الأهداف والدلالات العامة لمجموع التكاليف الدينية، ولهذا أكد الشيخ رفاعة الطهطاوي أن المجتمع الفرنسي الذي عايشه في عشرينيات القرن التاسع عشر أكثر اتساقا مع تعاليم الإسلام عن المجتمع المصري الذي جاء منه رغم أنه لم يوجد في فرنسا وقتها مسلمون!

ولو تركنا الغرب قليلاً لنرى الطريقة التي تتطور بها الثقافات الأخرى لوجدنا تعبيرات أشد لفتاً للنظر. فالثقافات الآسيوية، على سبيل المثال، طوَّرت احتراما عميقا للقانون، بينما يهدر القانون في بلادنا العربية والاسلامية على يد الدولة والمواطنين معاً، بالرغم من أن المشروع الأساسي للحضارة العربية الإسلامية كاد يختصر الإسلام في الشريعة أي في القانون.

تدعونا هذه المفارقة بالذات الى التأمل. كيف أمكن لثقافات لم تعرف الأديان السماوية تطوير هذا الاحترام العميق للقانون، بينما لم تنجح الثقافة العربية الإسلامية في غرس القيمة نفسها أو الفضيلة ذاتها في نفوس مواطنيها رغم قيامها على معنى القانون؟

يمكننا أن نحصل على إجابة مباشرة بالطبع من داخل منطق الثقافات الآسيوية، فهذه الثقافات قامت على التوحيد المباشر بين الدين والفضائل المدنية حتى أصبحت الأخيرة أديانا! فـ«الشنتو» اليابانية والكونفوشية الصينية والبوذية الهندية هي أديان «مدنية» أو هي طائفة من الفضائل المدنية التي نظر الناس إليها باعتبارها دينا. ولكن هذا التوصيف لا يفسر بالضرورة كل شيء. فبينما تمتعت فضيلة طاعة القانون باحترام شديد في كوريا مثلاً، فهي لا تتمتع سوى باحترام تلقائي محدود في الهند رغم أن الأخيرة هي الموطن الأصلي للبوذية.

يمكن تفسير هذه المفارقة بأن المجتمع الهندي لم يطور أدوات وعمليات وطرقا محددة لغرس احترام القانون في نفوس المواطنين، بينما قام المجتمع الكوري بهذه المهمة خير قيام، وبتعبير آخر صارت طاعة القانون جانبا مهما من المشروع الثقافي والمدني للدولة والمجتمع المدني في كوريا، بينما افتقرت الهند الى مشروع من هذا النوع.

وهذا هو ذاته ما نفتقر إليه في العالم العربي الإسلامي. لم يطرح المجتمع على ذاته مشروعات قوية تقوم على نشر الفضائل المدنية وتغرسها في نفوس الناس. واكتفت أغلبية المشروعات المطروحة على المجتمعات العربية الإسلامية المعاصرة بالتركيز على المستوى السياسي، وفي أفضل الأحوال بالإشارة إلى تفضيلات متباينة للنظم الاقتصادية المتنافسة. ولذلك تعاني حتى المشروعات التي تصف ذاتها بالإسلامية فائض التسييس على حساب إهمال المستويات الأخرى للحياة الاجتماعية، بل انتهت بعض هذه المشروعات السياسية بإنتاج ممارسات مدنية مناقضة لما طرحته من شعارات، بالرغم من أنها سيطرت على سلطة الدولة، ففي السودان كانت الأطروحة الأساسية للقوى التي فازت بالسلطة بعد انقلاب 1989 هي «بناء إنسان جديد» و«تأسيس حضارة إسلامية»، أما في الواقع فقد خسر المجتمع السوداني في ظل النظام السياسي الجديد بعض أفضل ما عرف عنه من فضائل مدنية، بما فيها الحوار السلمي والموادعة بين فرقاء السياسة حتى داخل العائلة الواحدة!

الصيام والمدنية

وربما يتعين علينا أن نتفق على مشروع لبناء المجتمع الفاضل بصورة مستقلة عن السياسة أو في ظل أي بنية سياسية. فالأصل أن السياسة هي مستوى من مستويات الحياة المدنية وأن فضائل السياسة لا تكتسب إلا كامتداد لفضائل المدنية.

كان ذلك هو ما دار برأس شيخنا الجليل الإمام محمد عبده وما جعله حجر الزاوية في فكره وأطروحاته وفهمه المتميز والمتعمق للإسلام بعد فشل الثورة العرابية في مصر باسم التعليم. ولم ينجح الرجل. غير أن علينا أن نفهم ونفسر لماذا فشلت أطروحته؟ وكيف يمكن ضمان نجاحها في مشروع نطرحه بصورة متوافق عليها بين مختلف القوى السياسية والمقاربات الفكرية للواقع العربي الراهن؟

هل يمكن، من حيث المبدأ، أن نطور مشروعا للانتقال إلى المجتمع الفاضل على المستوى المدني، أي المجتمع الذي يغرس الفضائل المدنية المتفق عليها كتراث مشترك للإنسانية في الوطن العربي؟

أعتقد جازماً أنه ممكن. فلدينا تراث تليد من الفضائل المدنية ولدينا أيضا منظومة من التكاليف والقيم الدينية الإسلامية والمسيحية التي تمثل حافزا مؤكدا وقويا لبث الفضائل المدنية.

صيام رمضان ذاته هو منصة انطلاق قوية لاستعادة وبناء مفهوم شامل للفضائل المدنية ولمشروع متكامل للانتقال الى المجتمع الفاضل.

أما كيف؟ فهو موضوع للتأمل والحوار.

*كاتب مصري

back to top