وأعدوا لهم ما استطعتم
الـ«جيوميديا» هي ببساطة امتلاك الدولة الأمة المنظومة الإعلامية ذات الرشد والنفاذ والقوة، والتي تنضم إلى منظومات القوة الأخرى السياسية والاستراتيجية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية، في تعزيز عمق الدولة الأمة، وتقوية مناعتها.
يسيطر على كثير من الرسائل الإعلامية العربية مفهوم مضلل؛ مفاده أن نصرة الأمة وقضاياها لا تتحققان من دون تكريس تلك الرسائل للدفاع عن المواقف العربية أو القُطرية المختلفة، عبر محاربة الأعداء أو الخصوم، ونعتهم بأسوأ الأوصاف، ونسب الأدوار المخزية لهم، وإلصاق الصفات الشائنة بحقهم، بغض النظر عما إذا كان ذلك انطلاقاً من حق أو باطل.والواقع ان هذا الأمر ليس محل استنكار أو استهجان إن هو تم في مساحات الرأي؛ تلك المساحات التي تعطي للإعلاميين والمفكرين والمثففين الإمكانية الكاملة لإبداء الآراء واتخاذ المواقف مهما كانت حادة أو مفرطة في الذاتية، على أن يكون هذا في حدود اللياقة التي يسمح بها الذيوع وتؤطرها قواعد البث والنشر.وينشأ الإشكال الكبير حين يتم استخدام التغطية الخبرية بأشكالها المختلفة لخوض تلك المعركة، التي ثبت على مر الأزمنة أنها خاسرة بامتياز؛ فيحارب الصحافيون باستخدام الأخبار، ويحرفونها ويلونونها ويشوهونها باستخدام طرق شتى، تحت وهم أن ذلك يحقق مصالح الأمة ويثبتها في معاركها ومنازلاتها التي لا تنقطع.ولا يتعظ هؤلاء بما ثبت عبر الصراعات الدولية كلها من أن الأمم التي تحارب بالأخبار لا تحصد سوى الخسران، وأن «العنتريات التي ما قتلت ذبابة» لا تنفع بقدر ما تضر، وفي تجربة الدعاية النازية، والإعلام الشمولي السوفييتي، والتجييش الإعلامي في الحقبة الناصرية خير دليل على هذا.كيف إذن ينصر الإعلاميون العرب قضايا أوطانهم من خلال ما يقدمونه من أخبار؟ كيف يشاركون في الكفاح المشروع من أجل تعظيم قدرات بلادهم، وتعزيز مقومات أمتهم، وتحسين أوضاعها في الصراع الكوني والمنافسة الدولية التي لا تعترف إلا بلغة القوة ولا تحمي الضعيف ولا تحترمه مهما كان على حق؟يقول المولى عز وجل في محكم التنزيل «وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم وما تنفقوا من شيء في سبيل الله يوف إليكم وأنتم لا تظلمون» (الأنفال 60). وفي هذه الآية الكريمة يأمر المولى المؤمنين بأن يعدوا، أي يجهزوا ويهيئوا، كل ما يدخل تحت قدرة الناس اتخاذه من العدة، وفقاً لأسباب القوة في كل عصر وفي كل ميدان وأي مجال، ليخيفوا عدو الله وعدوهم ويخزوه ويردعوه، وليجعلوه راهباً خائفاً محجماً عن استهدافهم والنيل منهم، محترماً منعتهم، ومعترفاً بقوتهم، ومتيقناً من بأسهم. وفي الحديث الشريف، ورد عن الرسول صلى الله عليه وسلم أن «المؤمن القوي خيرٌ وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كلٍ خير». وهو حديث يستغرق معاني القوة كلها، كما يشمل مقاصد الخير كله، من دون استثناء. فالرسول الكريم لم يشر هنا إلى نوع محدد من أنواع القوة، ولا يضعها في قالب واحد تنحصر فيه؛ فالمطلوب من المؤمن أن يكون قوياً في كل شيء وسعه أن يدرك القوة فيه. فالمؤمن القوي أقدر على نشر الحق وتعريف الناس به، سواء في قوة حجته أو شخصيته وسلوكه، والقوة التي يدعو إليها صلى الله عليه وسلم هي القوة المنبعثة من الإيمان، والمؤسسة على القاعدة التي تعصمها من الشطط والتهور والمبالغة.من هنا يعرف الإعلامي ما يجب عليه فعله وتحريه حين يتصدى للعمل في الأخبار؛ عليه أن يبني منظومة قوية تحقق سمات المنعة والقوة والبأس الشديد، وهو ما بات يعرف اليوم بالـ«جيوميديا»؛ على غرار المصطلحات المشابهة في المجالات الأخرى؛ مثل: الجيواستراتيجي، والجيوبوليتكي، والجيواقتصادي، وغيرها.فالـ«جيوميديا» هي ببساطة امتلاك الدولة الأمة المنظومة الإعلامية ذات الرشد والنفاذ والقوة، والتي تنضم إلى منظومات القوة الأخرى السياسية والاستراتيجية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية، في تعزيز عمق الدولة الأمة، وتقوية مناعتها، وحشد طاقاتها في الصراعات والمنافسات، التي تحدد مكانتها بين الدول والأمم أحياناً، أو تزيد مكاسبها، أو ربما تحفظ لها وجودها وبقاءها ذاته في بعض الأوقات.الـ«جيوميديا» لا تعني خوض القتال باستخدام الأخبار على غرار الدعاية النازية والأساليب الإعلامية البالية التي تعرفها بعض بلداننا العربية، لأن من يمتلكها يعلم أن للحرب وسائلها المحددة، وأن الأخبار ليست منها، إذ بات العالم منفتحاً ومكشوفاً بحيث لا يمكن أن تحجب حقيقة أو تزيف عنواناً أو تختلق قصة إلا لدقائق معدودة، بعدها يفضحك الآخرون، وتفقد مصداقيتك ومن ثم جمهورك الذي هو مقياس قوتك.ليدخل الإعلام العربي معترك المنافسة في الساحة العالمية عليه أن يمتلك منظومته القوية، التي تستند إلى اعتبارات ومعايير مهنية صارمة، يتحرى المحترفون من خلالها عملهم، فينزعون إلى حماية قيم العمل الإعلامي الرشيد من دقة وموضوعية ونزاهة وإنصاف وحياد وعمق ووضوح حتى في أوقات الصراع أو الخطر أو الغموض.بذلك فقط يتمكن الإعلام العربي بمؤسساته وأفراده من كسب ثقة الجمهور، داخل العالم العربي وخارجه، وبذلك فقط يصبح فاعلاً مؤثراً وظهيراً إيجابياً في أي صراع أو منافسة. فأسباب القوة في المنازلات التي يشهدها العالم راهناً بعيدة كل البعد عن التمويه والكذب والخداع وحجب الحقائق وتشويهها، وهي مرادف وترجمة حقيقية لالتزام المعايير المهنية التي اقتربت منها مؤسسات إعلامية عديدة في دول أكثر تقدماً وأصفى بصيرة، فاستطاعت من خلالها أن ترسخ قوة مجتمعاتها وتعزز اليقين في قدرتها على التقدم وتحقيق النجاح.* كاتب مصري