إننا في حاجة بعد هذا الأداء الرائع للوزيرة «الصبيح» في الرد على الاستجواب، مهنياً وسياسياً، إلى أن يقف كل عضو في المجلس عند تجديد الثقة بالوزيرة، ليشد على يدها، كما فعل النيباري في استجوابه السيد خالد العدساني، إذ وقف ليشكر العدساني على موقفه النبيل تجاه المستجوبين، بعد أن جدد مجلس الأمة الثقة به.عندما وقف النائب الراحل راشد صالح توحيد في قاعة عبدالله السالم، في الجلسة الثلاثين لمجلس الأمة لبدء الحياة النيابية والمعقودة بتاريخ 9/11/1963 يقول «إني أتهم الوزير» طلبت الرئاسة منه أن يستعيض عن كلمة «أتهم» بكلمة «أحمل المسؤولية»، أو أي شيء آخر حتى تأتي بالنتيجة المرجوة والثمرة ونكون قريبين من بعض.
ولانبهاري بالتجربة الديموقراطية في الكويت، بإيجابياتها وسلبياتها، أجدني مشدوداً دائماً إلى كل استجواب، باعتباره أرقى وأخطر وسائل الرقابة والمساءلة البرلمانية، أقرأه وأتابع مناقشاته على صفحات الصحف وتحت قبة البرلمان، وأشارك في مناقشاته في بعض الأحيان، فالمرء حيث يوجد لا حيث يولد وحيث يثبت لا حيث ينبت.
ولهذا استعدت ما قالته الرئاسة للراحل راشد التوحيد، الذي له السبق في تقديم ثاني استجواب في تاريخ الحياة البرلمانية، وأنا أتابع رد الوزيرة الدكتورة نورية الصبيح على محور اتهامها بالاعتداء على ثوابت المجتمع، عندما قالت إن الاستجواب يوحي بأن الوزيرة تحب إشاعة الفاحشة وتتبع الشهوات.
ولم أجد غرابة في أن تطلب الوزيرة من المجلس والرئاسة شطب بعض عبارات الاستجواب التي رأت الوزيرة أنها تتهمها بأبشع الصفات، بعد أن استعدتُ في ذاكرتي طلب الرئاسة من النائب راشد التوحيد.
ولكن ذلك لا يمنع من الاعتراف بالإطار الراقي الذي جرت فيه مناقشة هذا الاستجواب، وبالأسلوب الراقي الذي اتبعه النائب المحترم الدكتور سعد الشريع، عندما امتنع عن عرض أفلام وأشرطة، كان يعتبرها دليلاً في محور الاستجواب المتعلق بالاعتداء على ثوابت المجتمع، وذلك حفاظاً على القيم الاجتماعية، فصان بذلك الكلمة من الابتذال، وصانها من الامتهان، ومن أن تصبح تحت قبة البرلمان رخيصة، عارية من القيم الرفيعة والتقاليد الراسخة للمجتمع.
وهو ما يطرح سؤالاً مهماً، حول ما إذا كان الحوار البرلماني الراقي الذي جرت فيه مناقشات الاستجواب، هو بداية الطريق للعودة إلى لغة الحوار الرفيعة التي أرساها الرعيل الأول من البرلمانيين الكويتيين، عندما قدم النائب السابق عبدالله النيباري استجوابه إلى السيد خالد العدساني وزير التجارة والصناعة، وبعد أن جدد مجلس الأمة الثقة بالوزير، وقف النيباري ليشكره على موقفه النبيل تجاه المستجوبين، وأنهم إنما يصارعون سياسة خالد العدساني، أما هو كرجل فهو دائماً فوق رؤوسنا، بالرغم من بعض الشطحات التي حواها الاستجواب.
إننا في حاجة بعد هذا الأداء الرائع للوزيرة في الرد على الاستجواب، مهنياً وسياسياً، وبعد الشجاعة الكاملة التي تحلت بها في هذا الرد، وعندما أكدت اتهامها بعض النواب بالتدخل في أعمال السلطة التنفيذية، وأيدها بعض النواب، فشهد بذلك شاهد من أهلها.
إننا في حاجة بعد هذه الملحمة الرائعة التي أدتها، لتضيف إلى آل الصبيح ملحمة جديدة في العمل البرلماني، مثيلة لتلك التي أداها الدكتور عادل الصبيح في الاستجواب الذي وجه إليه إبان حمله الحقيبة الوزارية للإسكان، وجدد المجلس الثقة به، إننا في حاجة إلى أن يقف كل نيباري في المجلس عند تجديد الثقة بالوزيرة، ليشد على يدها وليقول لها «أنت في عقولنا وقلوبنا جميعاً»، إنها حقاً امرأة خلقت لكي تكون وزيرة، أو كما يقول شكسبير إن بعض الناس يولد عظيماً.
فنحن ورثة الكلمة التي نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، عندما قال جبريل للرسول: «اقرأ»، وكانت أولى سور القرآن باسم «القلم»، إنه تكريم للإنسان في فكره وعقله.
وقد قال المولى عز وجل لموسى وأخيه هارون عندما أوحى إليهما بالذهاب إلى فرعون ليبلغاه بدعوة التوحيد وعبادة الله، قال لهما: «فَقُولَا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى». ويقول سبحانه لرسوله صلى الله عليه وسلم «وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ».
إن الأداء البرلمانى الراقي في مناقشة هذا الاستجواب هو بداية الطريق للعودة إلى الأصول البرلمانية السليمة، يظلها ميثاق شرف برلماني، لا يتحول فيه الحوار البرلماني من تبادل للآراء والأفكار إثراءً للفكر ووصولاً إلى الحقيقة، إلى طعن في الأشخاص وتنابذ بالألفاظ، إلى جدل عقيم تستغرق فيه الوسيلة الغاية.