Ad

إذا كانت الصورة الذهنية لدى الآخر هي النتاج النهائي للانطباعات الذاتية التي تتكون عند الأفراد أو الجماعات أو الأمم إزاء اسم علم ما؛ فما يا ترى صورة العربي لدى العربي اليوم؟

تروي النكتة أن شخصاً ذهب إلى متجر لشراء مخ جديد؛ فأخذ البائع يشرح له مميزات البضاعة الموجودة وأسعارها؛ ومن ذلك أن المخ الإنجليزي سعره مئة ألف دولار، والألماني مئة وعشرون، والياباني تسعون ألفاً. وهنا سأل المشتري عن سعر المخ العربي؛ فجاءته الإجابة: ثلاثمائة ألف دولار. لماذا؟ سأل الرجل مندهشاً؛ فأجاب البائع: «لأنه مخ «على الزيرو»، لم يسبق له العمل أبداً».

تلك النكتة لا يرويها أعداؤنا عنا؛ سعياً إلى الإضرار بصورتنا، وتقزيم وجودنا، ومن ثم النيل منا في ميادين الصراع، لكنها واحدة من عشرات، بل مئات، النكات التي نرويها عن أنفسنا، وكلها، للأسف الشديد، لا تتعلق فقط بـ «خمولنا العقلي» و«تراجعنا الحضاري»، ولكنها تتصل أيضاً بما هو مزعوم عن «فسادنا القيًمي والأخلاقي»، و»غبائنا السياسي والإنساني».

والشاهد أنك لن تجد جماعة قومية، على مر التاريخ، أنزلت نفسها منازل التهوين والاحتقار كما نفعل بأنفسنا؛ إذ أصبحنا نجد متعة في جلد الذات وإهانتها شديدة. وبعيداً عن أفعال النقد الذاتي ذات الرشد والضرورة في محافل الحساب ومراجعة السلوك الفردي والجمعي؛ فإننا أنتجنا، بجسارة وزهو فارغين، ثقافة من التعريض المر، والتشهير القاسي، والحط المنظم من مقدراتنا كلها؛ الثابت منها والمتحول، والجغرافي والسياسي، والحاضر والماضي، حتى باتت «نا»، التي تعبر عن إدراكنا الجمعي لذاتنا الكلية، عنواناً لتفلتنا من كل اعتزاز، وتنصلنا من أي انتماء لوجودنا ذاته، وتخلينا الطوعي عن عنوان حضورنا في الكون وميراث أولادنا من احترام الذات وذرائعهم للحفاظ على البقاء.

ولا يقتصر الأمر هنا على نكات تروى أو أحاديث اللهو واللغو في المحافل غير النظامية، لكنه يمتد ليشغل الحيز الأكبر في خطابنا عن أنفسنا وسلوكنا العام؛ بحيث وجدت جماعة كبيرة بيننا أن السبيل إلى علاج اعتوارات الواقع والتعاطي مع موقفنا الحضاري المتراجع لا يأتي عبر مكاشفة الذات، وتشخيص العيوب، فوضع البدائل، وقياس التكاليف والعوائد، ومن ثم اختيار الحلول الأنسب، لكنه يأتي، بحسب هذه الجماعة، عبر التنصل من الخلل برده إلى أساس بيولوجي، أو اعتوار سيسيولوجي، أو مرض تاريخي مزمن لا علاج منه أو مفر. فيرتاح الناقد بتنصله المزعوم، ويتحول شاهداً، أو قاضياً، أو معلقاً على انسحاقنا التاريخي، فينال الخلاص، وكأنه ليس منا، أو هو كان منا لكنه برأ، وصار في موقع الوصي أو المُشخص أو المعالج، تاركاً مواقع الإدانة للجماعة التي هي نحن.

وإذا كانت ذروة مظلوميتنا التاريخية في محاججاتنا المتصلة مع الغرب، وجهات في العالم أخرى، تتصل بما يُروج عنا من صور وقناعات مهينة وسلبية من جهة الوجاهة القومية، وضارة ومؤذية من جهة المصالح الوطنية؛ فإن تلك المظلومية تقف صاغرة متواضعة إذا ما قورنت بما نراه في أنفسنا، ونقوله عنا في حفلات «تحقير الذات القومية»، الممتدة على أبسطة السياسة والفكر والأدب والإعلام، وفي المنتديات، والنقل العام، وبين صبيان الحارات.

فالعربي الذي هو في أسوأ الانطباعات الغربية «خمسة بي» 5 Bs؛ أي Bomber إرهابي مفخخ، Billionaire واسع الثراء، Bedouin بدوي، Belly Dance عاشق للرقص الشرقي، بما يمثله من فتنة حسية وإغواء، Bazaar رجل سوق ومساومة ومقايضات، ليس أسوأ بكثير مما نصوره لأنفسنا عن أنفسنا، بل يكاد يكون أقل قسوة من تعبيرات عربية تصف العرب بما هو أسوأ، وتنسب لهم من النقائص والعيوب ما هو أفدح.

تهتم السياسة الخارجية، كما يقول هانز مورجنثاو، بالصورة الذهنية اهتماماً كبيراً؛ لأنها تساعد في تحقيق الأهداف الكبرى المتعلقة بالحفاظ على القوة، وصيانة النفوذ عبر خلق السمعة الطيبة، وزرع الثقة لدى الآخرين؛ وهو بالضبط ما بتنا نفعل عكسه تماماً؛ إذ لا نقاوم التدليس المنظم من قبل أعدائنا ومنافسينا فيما يتعلق بصورتنا، بل أيضاً نعطي من الأوصاف المُحطة عن أنفسنا ما يعجز أي عقل معادٍ عن ابتكاره، مهما بلغ به الكره والهوس.

وإذا كانت الصورة الذهنية لدى الآخر هي النتاج النهائي للانطباعات الذاتية التي تتكون عند الأفراد أو الجماعات أو الأمم إزاء اسم علم ما؛ فما يا ترى صورة العربي لدى العربي اليوم؟ وكيف يمكن بهذه الصورة أن نحقق أي نصر أو إنجاز؟ فضلاً عن الحفاظ على احترامنا لأنفسنا ووجودنا ذاته.

لا يجب أن نقبل لأنفسنا أي نقد أو توجيه سوى ممن ينتمي إلي جماعتنا، ويتمترس في خندقنا، أو على أقل تقدير يظهر لنا القدر الواجب من الاحترام. وإذا كانت ظروف ما في السياسة والاقتصاد والثقافة، وأحوال ما في التاريخ والحاضر قد جلبت لنا إحساساً بالوضاعة أو العار زائفين؛ فعلى أقل تقدير لا يجب أن نُصّدر أسوأ أمراضنا إلى أولادنا؛ فربما كانوا أنضج منا وأعز.

أما هؤلاء الذين هم منا ويسرفون في جلد «نا» وتحقيرها؛ فيجب أن يدركوا أنهم بهذا لا يتنصلون من عجزنا الحضاري أو خطلنا السياسي أو تواضعنا الاقتصادي بقدر ما يطعنون جذورهم وفروعهم وصلتهم بالحياة؛ وفي هذا يقال: «إن الطعنة بيد القريب أقسى على المرء وأنكى من الطعنة بيد العدو المقيم على العداوة».

* كاتب مصري