Ad

أعتى تجليات هذا الواقع العنقودي الأزمات هو أننا ككويتيين وعلى مستوياتنا الفكرية المختلفة لانزال نعيش كابوس تعليق الدستور في أية لحظة، أي أننا لم نتشرب ديموقراطيتنا إلى الحد الذي يجعلنا نؤمن بها وباستمراريتها حقاً، وإنما نعيش، وبشكل مستمر، فكرة أنها هبة يمكن أن تسحب في أي لحظة، وكأننا في ذلك حشد من الممثلين على خشبة مسرح نقوم بأدوار في مسرحية هزلية.

أسوأ ما في الأحداث التي جرت خلال الأسابيع الماضية، ابتداءً بأزمة التأبين مروراً بالديوانيات المخالفة، ولن أقول انتهاء بمداهمات فرعيات القبائل لأني لا أستطيع الجزم بانتهاء الأمور عندها، أقول إن أسوأ ما فيها ليس ملابساتها ووقائعها الصاخبة التي سيطرت على وسائل البث الإعلامي جميعها، وبالتالي على عموم الناس، وإنما تجلياتها التي لم تنل إلا القليل من الالتفات والانتباه!

إن الرابط بين هذه الحكايات يتجاوز الفكرة المباشرة من تصادم (السلطة) مع (فئة) من الشعب، هي جماعة من الشيعة في حالة التأبين، وأصحاب الدواوين المقامة على الأملاك العامة في حالة الديوانيات المخالفة، وأبناء القبائل في حالة الفرعيات. صحيح أن هذا الاستهداف السلطوي لمختلف فئات الشعب قد حصل في متتالية غريبة لا يمكن التصديق بأنها محض صادفة، أو محض صحوة لحكومة استفاقت وهرعت تسعى لصيانة هيبة النظام المهدرة، ولكن الرابط الأهم، وإن كان متوارياً تحت السطح، أن المواجهة كانت بين واقع الشعب الكويتي من جهة والدستور وقوانينه من الجهة المقابلة.

كشفت لنا أزمة التأبين أن واقعنا السياسي كان قد شب عن طوق منظومة التشريعات المقننة للعمل السياسي وصار أكبر من حجمها، حيث تفجرت تساؤلات كثيرة على هامش هذه الأزمة ولم تجد لها أجوبة حتى الساعة.

ما مشروعية العمل السياسي المنظم في الكويت ومدى قانونيته وطريقة عمله؟ وبعد ذلك ما مشروعية عمل الجماعات السياسية مع وجود ارتباط إيديولوجي، أو ربما تنظيمي، لها بجماعات في الخارج؟ وغيرها وغيرها من التساؤلات التي حامت في سقف القضية ولم تجد لها بقعة مضيئة تحط فيها. هذه التساؤلات الحائرة ما ثارت إلا لأننا لانزال نجتر التشريعات نفسها التي جاءت منذ أكثر من أربعين سنة ولم تمر على عجلة التطوير في حين تطور الواقع على مختلف صعده وتجاوزها.

قضية الدواوين المتعدية على أملاك الدولة، وبصرف النظر عن الأسلوب الحكومي المترنح للتعامل معها، ما بين التأجيل ثم التنفيذ على استحياء ثم انفراط العقد فالهجوم الكاسح الماسح، كشفت لنا مدى تشكك المواطن بمصداقية الحكومة وجديتها في تنفيذ القوانين، لذلك رأينا كيف آثر أغلب الناس المماطلة والتسويف على أمل أن يتوقف التنفيذ لسبب من الأسباب كما توقف تنفيذ كثير من القوانين في السابق، وبالرغم من أن الحكومة تندفع اليوم في إزالة الدواوين المخالفة بصورة محمومة، فإن يقيناً لايزال راسخاً في ضمير المواطن ويستمر يقول إن سكين الحكومة لن تبتر إلا أيادي الضعفاء ولن تمس أيادي الأقوياء المنتفخين وشاليهاتهم، أو لنقل قصورهم البحرية المخالفة حتى نكون أقرب إلى الحقيقة، وقسائمهم الصناعية التي تعدت كل معقول.

قضية الفرعيات، ثالثة الأثافي، وسأقول ثالثة الأثافي حتى اللحظة على الأقل فلعل جماعتنا سيجعلون للأثافي رابعة وخامسة وربما سادسة، أقول إن هذه القضية كشفت عما هو أسوأ مما سبق، وهو أن المواطن قد وصل إلى مرحلة من عدم الاندماج والاغتراب عن نظرية الدولة، أي دولة المؤسسات والدستور والقانون إلى الحد الذي جعله اليوم لا يكسر القوانين ويخالفها خفية، وإنما يجاهر برفضها وتحطيمها على رؤوس الأشهاد مستخدماً لذلك الوسائل كلها التي تطالها يده.

أعتى تجليات هذا الواقع العنقودي الأزمات هو أننا ككويتيين وعلى مستوياتنا الفكرية المختلفة لانزال نعيش كابوس تعليق الدستور في أية لحظة، أي أننا لم نتشرب ديموقراطيتنا إلى الحد الذي يجعلنا نؤمن بها وباستمراريتها حقاً، وإنما نعيش، وبشكل مستمر، فكرة أنها هبة يمكن أن تسحب في أي لحظة، وكأننا في ذلك حشد من الممثلين على خشبة مسرح نقوم بأدوار في مسرحية هزلية. مسرحية يمكن لها أن «توقف» في أي لحظة إن نحن تجاوزنا حدود النص المرسوم!

من الخطأ أن يتصور أحد ما أنه من الممكن أن يتعامل الكويتيون مع الديموقراطية وما يعترض طريقها من أزمات باعتبارها واقعاً مناخياً ولدوا ليجدوا أنفسهم فيه، تماماً كما شاءت أقدارهم أن يوجدوا على هذه البقعة المناخية الصعبة من العالم فاضطروا للتعايش والتكيف مع حرارتها وعواصفها الغبارية. لا يا سادتي، لا سبيل لنا للتغلب على عناقيد الأزمات الحامضة هذه إلا بتغيير تعاملنا ونظرتنا لديموقراطيتنا ودولتنا، حتى تصبح هي ثقافتنا الأساسية التي تحتاج إلى التوصيل والتعليم المستمر للناس كي يتجاوزوا ثقافاتهم الفئوية الجزئية المختلفة، وأن تصير مشروعنا المشترك، وأعني مشروعنا جميعاً، نظاماً وحكومة وشعباً، المشروع الذي يحتاج إلى الرعاية الدائمة والصيانة المستمرة لإبقائه على قيد الحياة!