وما أدراك ما التدوير؟
في العام الماضي، أعلنت الحكومة فجأة ومن دون مقدمات أنها قد اكتشف «الطريقة المُثلى» لتطوير الجهاز الإداري للدولة، التي خُيل لبعضهم أنها ستحل محل نظرية مؤسس الإدارة العلمية الحديثة العالم فريدريك تايلور، عندما تحدث عن الطريقة المُثلى لأداء العمل! طريقة الحكومة المُثلى أو وصفتها السحرية، إذا كنا سنميزها عن تايلور، كانت القيام بعملية «تدوير» إداري شاملة بين جميع المسؤولين في الوزارات والمؤسسات العامة كلها، بدءاً من الوكلاء حتى رؤساء الأقسام.وقد رافق الإعلان عن هذه السياسة الإدارية أو «الوصفة السحرية» حملة إعلامية مركزة، و«مانشيتات» ضخمة في الصحف، ثم بدأت مجموعة من الوزارات والهيئات الحكومية تطبيقها بشكل واسع، وترتب عليها استقالات مجموعة من المسؤولين الرافضين للتدوير، ومعاناة نفسية لمن بقي من المسؤولين «المهدَّدين» بتجربة الوصفة السحرية، حيث قد ينام أحدهم، وهو مسؤول عن قطاع ويستيقظ ليجد نفسه مسؤولاً عن قطاع آخر لا يعرف عنه شيئاً. أو أن وكيلاً مساعداً للشؤون الإدارية يحمل مؤهلا تخصصيا وكان قد قضى سنوات عدة في وظيفته الحالية، وكوَّن من الخبرة في هذا المجال ومن علاقات العمل ما يضمن كفاءة وفعالية أدائه، ويجعله يبدع في مجاله، ثم فجأة «يُدوَّر» أو يتبادل المنصب مع زميله للشؤون الفنية الذي يحمل مؤهلا فنيا تخصصيا، وكوَّن هو الآخر من الخبرة وعلاقات العمل ما يكفي لاستمراره بإدارة قطاعه بكفاءة عالية، مع العلم أن كلاً منهما لا يفقه شيئا بطبيعة عمل الآخر.
وهكذا هي الحال في المستويات الإدارية المختلفة كافة، فرئيس قسم المشتريات «يُدوَّر» لشؤون الموظفين، ورئيس قسم العلاقات العامة «يُدوَّر» للمخازن، ورئيس قسم شؤون الموظفين «يُدوَّر» للأمن والسلامة، ومدير التطوير الإداري يتبادل مع مدير نظم المعلومات! يتم ذلك مع غياب الأسس والمعايير التي بنيت عليها هذه السياسة الإدارية الشاملة. إن أمامنا احتمالين هنا: فإما أن المسؤول متخصص ومتميز في أداء عمله الحالي، وفي هذه الحالة لماذا «يُدوَّر» لعمل جديد قد يجد صعوبة في فهم طبيعته والتأقلم مع بيئته الوظيفية؟ أو أن المسؤول ذو كفاءة إدارية متدنية، وفي هذه الحالة لماذا «يُدوَّر» أيضاً؟ فالمفروض أن يُعاقب إدارياً أو لا يُجدد له في حالة الوكيل، فكيف يكون غير جاد وغير كفؤ إدارياً ، ويعطى الفرصة لممارسة عدم الجدية وعدم الكفاءة في إدارة قطاع أو إدارة أخرى؟ لا نعرف حقيقة ما هي الحكمة من عملية «التدوير» الإداري الشاملة؟ ومن هو عالم الإدارة (الفذ) الذي نصح بهذه السياسة الإدارية «المثلى» وغير المسبوقة عالمياً لتطوير الجهاز الإداري للدولة؟ وما هي الدراسات والتجارب الإدارية العالمية التي استندت إليها هذه السياسة؟ حيث إنها قد خلقت معاناة نفسية للمسؤولين و«لخبطة» وفوضى إدارية أضيفت إلى المشكلات التي يعانيها الجهاز الإدارى الحكومي.الآن، وبعد أن هدأت، شيئاً فشيئاً، الضجة الإعلامية المرافقة لهذه السياسة الإدارية «المُثلى» وانجلت «معركة» التدوير الإدارى الكبرى، بعد أن أثارت الكثير من الضجيج والغبار وذهب ضحيتها بعض الكفاءات الوطنية الإدارية المتميزة، أليس من حقنا كمواطنين أن نتساءل عن الأسباب والمبررات والتكلفة (المادية والبشرية) والنتائج المترتبة على تطبيق سياسة «التدوير» الإداري؟ خاصة أننا لم نلمس تحسناً نوعياً في جودة الخدمات التي يقدمها الجهاز الإداري للدولة، حيث بقي على ترهله، إن لم يزدَد ترهلاً. ثم أو ليس من حق من تضرر نفسياً من المسؤولين من هذه السياسة أن يطالب بالتعويض المعنوي؟!