لم يكن الأمر سهلاً!
سيطر اتجاهان على حيثيات ومداولات وتحضيرات الإعلان العالمي لحقوق الإنسان؛ اتجاه معادٍ لإيجاد منظومة دولية لحقوق الإنسان وتمثله الدول الكبرى، واتجاه مؤيد، وإن بدرجات مختلفة، وتقوده دول أميركا اللاتينية ودول أخرى صغيرة كلبنان.
دخل الإعلان العالمي لحقوق الإنسان منذ عدة أيام عامه الستين، ومع ذلك فمازال حياً، حاضراً، مؤثراً في معطيات السياسة الدولية والمحلية. وحيث إن كثيراً مما يقال من كون الإعلان ومواده الثلاثين لم يكن إلا صناعة غربية، أرادت الدول الغربية من خلاله فرض تقييمها على العالم، وبالتالي توظيفه سياسياً لتحقيق هيمنتها على العالم، فإن تلك المقولة تدل على جهل مفرط بكيفية صدور الإعلان، وهو ما نسعى إلى إيضاحه من خلال سلسلة مقالات خاصة بالإعلان.وعلى أي حال لم يكن الطريق إلى إنجاز الإعلان مفروشاً بالورود، ولم يكن توصل المجتمع الدولي الممثّل في الأمم المتحدة إلى تحديد مفهوم كوني عالمي حول الإنسان وحقوقه عملية سهلة على الإطلاق. كان واضحاً أن العملية التحضيرية التي استمرت قرابة ثلاث سنوات من 1945 حتى 1948 قد خضعت لمداولات وأخذ ورد وتنازلات وتعديلات، انعكست في النهاية على المنتج النهائي؛ فحين جرى التصويت على الإعلان في منتصف ليلة العاشر من ديسمبر 1948 لم تعترض دولة واحدة؛ فمن أصل 55 دولة شاركت في التصويت الذي جرى في إحدى ضواحي العاصمة الفرنسية باريس كانت النتيجة أن صوتت 47 دولة لمصلحة الإعلان، بينما امتنعت 8 دول عن التصويت، ولم يكن هناك أي دولة معترضة، وهو ما سنأتي إليه لاحقاً.وقد كان واضحا أن الرغبة الدولية -إن جاز التعبير- كان يتنازعها اتجاهان بخصوص درجة الالتزام بحماية حقوق الإنسان، وكيفية إدماج تلك الحقوق ضمن المنظومة الدولية التي كانت في طور التأسيس والمسماة بالأمم المتحدة. كان الاتجاه الأول، معبرا عنه بواسطة الدول الكبرى التي أرادت من إيجاد الأمم المتحدة أن تكون مؤسسة لفرض نفوذها على العالم، وبالتالي ضمان عدم نشوب حرب عالمية جديدة. وعلى هذا الأساس، فإن منظورها لحقوق الإنسان لن يكون أكثر من عملية «علاقات عامة» لكي تظهر فيها تلك الدول أمام العالم أكثر «إنسانية» وتثبت أنها حسنة السير والسلوك، وأن موضوع إلزام أو التزام الدول باحترام حقوق الإنسان من خلال مواثيق واتفاقيات دولية، سيؤدي بالضرورة إلى إضعاف وتقويض المشروع الدولي الجديد القائم على توازن القوى وليس على المنظومة الأخلاقية، وقد دخل ضمن هذه المجموعة الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي وبريطانيا وجنوب إفريقيا العنصرية، وإلى حد أقل، فرنسا وربما يعود الدور الفرنسي الأقل تحفزاً وعدائية إلى وجود شخصية مؤثرة في الوسط الفرنسي مثل رينيه كاسان.أما الاتجاه الثاني، وهو المؤيد لإيجاد صيغة دولية لحماية حقوق الإنسان، فتمثل في بقية الدول، بما في ذلك الدول العربية والإسلامية والأوروبية والأميركية اللاتينية التي كانت هي الأكثر نشاطاً وفاعلية في الوصول بالأمور إلى نتيجتها النهائية. كانت أميركا اللاتينية في تلك الحقبة تشهد صعوداً ونهضة ديموقراطية، بل إن تلك الدول كانت قد توصلت إلى قرار في مارس 1945 خلال مؤتمر عقد في مكسيكو سيتي مفاده عدم الاعتراف بأي نظام غير ديموقراطي يتأسس في القارة مستقبلاً، وعلى الأخص تلك الأنظمة التي قد تتشكل كنتاج لانقلاب عسكري ضد حكومات ديموقراطية.وقد نقلت دول أميركا اللاتينية ذلك التوجه إلى مؤتمر سان فرانسيسكو وتحركت بنشاط مذهل فاجأ الدول الكبرى التي لم تكن حقوق الإنسان ضمن أولوياتها، وقد أثمر تحركها ذكر حقوق الإنسان في 7 مواقع مختلفة ضمن ميثاق الأمم المتحدة، كما أثمرت تلك الضغوط والتحركات استصدار قرارات محورية في الموضوع كإنشاء المجلس الاقتصادي والاجتماعي، على أن تكون من ضمن مكونات المجلس لجنة لحقوق الإنسان تكون مهمتها الأساسية إعداد منظومة وثائق دولية عن حقوق الإنسان، كما اتضح أن أول ثلاث دول قدمت مشاريع مكتوبة متكاملة كانت دولاً صغيرة في أميركا اللاتينية وهي تشيلي وبنما وكوبا. وقد تضمنت تلك المشاريع حقوقاً في التعليم والعمل والطعام والرعاية الصحية وغيرها من التأمين الاجتماعي. وقد انعكس ذلك بشكل واضح على المؤتمر الدولي التاسع للدول الأميركية الذي عُقد في بوغوتا، كولومبيا، في أبريل 1948 حيث صدر عنه الإعلان الأميركي لحقوق وواجبات الرجل (الإنسان) والذي عرف باسم إعلان بوغوتا.وهكذا سيطر اتجاهان على حيثيات ومداولات وتحضيرات الإعلان العالمي لحقوق الإنسان؛ اتجاه معادٍ لإيجاد منظومة دولية لحقوق الإنسان وتمثله الدول الكبرى، واتجاه مؤيد، وإن بدرجات مختلفة، وتقوده دول أميركا اللاتينية ودول أخرى صغيرة كلبنان، على سبيل المثال.فمن أين جاء مَن أتى بمقولة إن الإعلان العالمي لحقوق الإنسان كان صناعة غربية؟ وللحديث بقية.