شيء واحد يوحي بأن المعارضة قوية هو التضييق المستمر عليها من قبل النظام، سواء اتخذ شكل حرمانها من أي منبر للتعبير عن نفسها داخل البلد، أو منْع ناشطيها من التجمع ولو في بيوت خاصة، أو فصل بعضهم من أعمالهم في المؤسسات الحكومية كما جرى مع ستة عشر ناشطاً وناشطة وقعوا على «إعلان دمشق بيروت» في ربيع 2006.الاعتقالات الأخيرة في سورية لناشطين في أوساط «إعلان دمشق» مناسبة مفيدة لتقصي ملامح صورة المعارضة في عين السلطات السورية في عهد الرئيس بشار الأسد الذي يوافق السنوات المنقضية من هذا القرن. ثمة ثلاثة مدركات متناقضة في ما بينها منطقيا في هذا الشأن، غير أنها متوافقة من حيث تلبيتها حاجات سياسية للنظام في سياقات مختلفة وأوقات مختلفة وأمام مخاطبين مختلفين.
في المقام الأول توصف المعارضة عادة بأنها ضعيفة، تعد بعشرات أو مئات من الكهول، وقد يذكر في السياق نفسه أن هناك مليوني بعثي. وفي تصريح شهير قبل ثلاثة أعوام استطاع فاروق الشرع، وزير الخارجية السوري السابق ونائب رئيس الجمهورية اليوم، أن يقول إن المعارضة السورية غير قادرة على إدارة مدرسة ابتدائية.
ولن نسمع كلمة واحدة عما تتعرض له المعارضة من تضييق نشيط اليوم أو ما نالها من قمع كاسر للظهر في أوقات سابقة، وسيبدو ضعفها وقوة النظام إزاءها جزاءين وفاقيين لتنافسهما الشريف ولفرصهما المتكافئة في النشاط السياسي.
في المقام الثاني يحصل أن توصف المعارضة بأنها خائنة أو ما يقارب ذلك، إنها تنسق مع جهات خارجية أو تراهن عليها، وهي ترفع صوتها حين يمر «الوطن» (أي النظام) بـ«ظروف حرجة» و«مراحل دقيقة»، وحين تعصف به «المؤامرات» ويتربص به المتربصون، وبالطبع القمع الذي كان بريئاً من ضعف المعارضة سائغ حيال المعارضة الخائنة، وقد يطول التخوين المعارضة ككل أو أطرافاً منها (الموقعين على «إعلان دمشق بيروت» مثلاً، ومنهم ميشيل كيلو ومحمود عيسى وأنور البني، والثلاثة في السجن منذ أكثر من عام ونصف). ومن تنويعات هذا الاستراتيجية إلحاق المعارضة ككل بمغامرين هامشيين لا وزن لهم مثل فريد الغادري. ففي نهاية الشهر العاشر من عام 2005، أي بعد أسبوعين من قيام ائتلاف «إعلان دمشق»، استطاعت صحيفة «تشرين» الرسمية السورية أن تقول إن معارضين سوريين التقوا بإسرائيليين في واشنطن. والخبر نفسه يكشف أن «المعارضَيْن» هما فريد الغادري، وهو مغامر سوري الأب تخلّق من عدم سياسي في الولايات المتحدة في عام 2003، ولا وزن له في سورية؛ والآخر كاتب مقرب من الأجهزة الأمنية، اسمه نبيل فياض، كان أعلن رغبته في الخروج من سورية إلى أي بلد يستقبله، وسرعان ما أقام في أميركا بانتساب معلن لحزب الغادري، وبصحبة معلنة مع إسرائيليين، ثم بعد أسابيع قليلة بعودة معلنة إلى سورية من دون أن يمسسه ضُر.
وجليٌّ أن المقصود بالتخوين هو المعارضة وقضيتها، وليس أدوات سياسية محدودة الاستعمال للنظام أو لخصومه الدوليين، و لو ارتضت المعارضة أن تكون أداة سياسية لكانت برئت من التخوين بلا ريب، بدل أن تعمل على أن تكون طرفاً فاعلاً في المعادلة السياسية المحلية.
والاستراتيجية الثالثة تقرر أن المعارضة غير موجودة، في عهد الرئيس حافظ الأسد لم يكن يسمح لكلمة معارضة بأن تدخل التداول العام. كان تجاهلها المطلق إعلاميا وسحقها أمنياً وجهي السياسة المعتمدة آنذاك. في العهد الحالي لاتزال السياسة هذه هي الميل الغريزي الأساسي إلى النظام، بيد أن الإمعان فيه يبدو متعذراً اليوم لأسباب تقنية (الإنترنت والفضائيات) واقتصادية (الحاجة إلى مناخ سياسي وقانوني وأمني أكثر انضباطاً وتلاؤماً مع مقتضيات لبرلة الاقتصاد). يحصل كذلك أن يأخذ إنكار وجود المعارضة شكلاً مخادعاً و«سينيكيا» (القول إن المعارضة لا تعارض)، وبالتالي ليس ثمة قضية معارضة في سورية. وقد يتمثل هذا التوجه في وصف أهل النظام للمعارضة بأنها «وطنية»، أي تؤيد النظام وتقف إلى جانبه، وكان اللواء بهجت سليمان، أحد كبار رجال الأمن السوريين، كتب مقالة في جريدة «السفير» البيروتية عام 2004 تقرر وطنية المعارضة السورية، قبل أن يعود في مقال آخر قبل أسابيع إلى تخوين بعض المعارضين، رياض الترك بصورة خاصة.
ولا يختلف السياق السياسي للتخوين عن سياق إنكار وجود المعارضة، بيد أن المخاطب بالتخوين هو الداخل السوري والمعارضون خاصة. حين أخذت أطراف عربية على الرئيس بشار الأسد وصفه زعماء عرباً بأنهم أنصاف رجال بعد حرب يوليو في لبنان عام 2006، تقدم وزير الإعلام السوري بتأويل للكلام يفيد بأن المقصود به هو سوريون في الداخل. أما الكلام عن ضعف المعارضة فيجري تداوله في الأوضاع العادية، وحين يصدر عن مقربين من النظام، لا من ناطقين مباشرين باسمه، يكاد يوحي بأنه يصدر من الغيرة عليها.
والحال أن المعارضة ضعيفة فعلا. شيء واحد يوحي بأنها قوية هو التضييق المستمر عليها من قبل النظام، سواء اتخذ شكل حرمانها من أي منبر للتعبير عن نفسها داخل البلد، أو منع ناشطيها من التجمع ولو في بيوت خاصة، أو فصل بعضهم من أعمالهم في المؤسسات الحكومية كما جرى لستة عشر ناشطاً وناشطة وقعوا على «إعلان دمشق بيروت» في ربيع 2006، أو بالطبع اعتقال بعضهم على غرار ما جرى في مطلع الثلث الثاني من هذا الشهر، حيث اعتقل العشرات لوقت قصير، لكن لايزال ثلاثة منهم قيد التوقيف منهم الكاتب أكرم البني.
ورغم أن ضعف المعارضة السورية لا يرتد فقط إلى القمع الحكومي الذي تتعرض إليه، فإن نموها غير ممكن من دون ارتفاع سيف القمع المصلت دائما على عنقها. أما وصفها بالخيانة فيقول عن نمط ممارسة السلطة في البلاد أشياء من دون أن يقول أي شيء عن المعارضة ذاتها. يقول خصوصاً أن النظام يطابق نفسه بالوطن، مما يشرع استئصال المعارضة وإبادتها، ويبقى أن أحداً لا يشغل نفسه بنفي متكرر لوجود شيء، ما لو كان هذا الشيء غير موجود فعلا.
* كاتب سوري