Ad

كان الشيخ كشك شجاعاً، استمد قوته من ضعفه، واتسعت حيلته بقلة حلوله وبدائله، وزاده فقره زهداً وتعففاً، وقد كان ضريراً فـ«ليس عليه حرج». أما اليوم فيأتي المبصرون من أتباع المدرسة نفسها، فلا يرون بأعينهم المفتوحة سوى دروب المصلحة والنفعية المقيتة؛ فيداهنون صاحب المحطة أولاً، ورئيس دولة المقر، والدولة التي يخضع لها الممول.

«امرأة في السبعين من عمرها، تقف على المسرح، تغني أمام الناس؛ قائلة: خدني في حنانك خدني... عن الوجود وابعدني. يا خي خدك ربنا». هكذا كان يقول الشيخ عبدالحميد كشك، رحمه الله، من على منبر مسجد «عين الحياة»، بمنطقة حدائق القبة، وسط العاصمة المصرية، حيث كان الناس يتكالبون على سماع خطبه بالآلاف، فيسدون الشوارع، ويشلون حركة المرور.

الذين طربوا لسيدة الغناء العربي أم كلثوم الخميس، ينتشون الجمعة لسماع هذا النقد القاسي بحقها من الشيخ الضرير، في خطبته «البديعة»، التي تحظى بأكبر قدر من الجماهيرية في بلد يحوي، آنذاك، أكثر من مئة ألف مسجد.

لم يكن الشيخ كشك يهاجم الست فقط، لكنه أيضاً كان يستهدف عبدالحليم حافظ، نجم نجوم الغناء وقتها، معلقاً على رائعته «قارئة الفنجان»، خصوصاً المقطع «إني أتنفس تحت الماء... إني أغرق أغرق أغرق»، بقوله «لعنة الله عليك... ألك خياشيم يا عُبد؟».

لم يسلم لاعبو الكرة أيضاً من هجمات الشيخ الساحقة، ولا الجمهور نفسه سلم؛ فلما أحرز نجم الأهلي في السبعينيات مصطفى عبده هدفاً جميلاً في الخصم اللدود الزمالك، غنى الجمهور المبتهج بالشارع «يا مصطفى يا مصطفى أنا بحبك يا مصطفى»؛ وهو ما استدعى تعنيف الشيخ واستنكاره الزائد: «ألم يكن من الأجدى أن تغنوا للمصطفى صلى الله عليه وسلم».

الشيخ الذي ولد في الثلاثينيات من القرن الماضي، وأتم حفظ القرآن في الثامنة، ولم يمنعه فقد البصر من الحصول على شهادة في «أصول الدين» من الأزهر، كان نجماً شعبياً بلا منازع؛ إذ لم يوفر أحداً دون أن يهاجمه؛ بدءاً بعبدالناصر ونظامه، وليس انتهاء بالسادات وسياساته.

هاجم الشيخ أم كلثوم وعبدالحليم ومحرم فؤاد، الذي اتهمه بالكذب لأنه ادعى في إحدى أغنياته أن رموش حبيبته جرحته، معتبراً أن الجرح لا يتحقق إلا إذا كانت تلك الرموش «أمواس حلاقة».

لكنه هاجم أيضاً لاعبي الكرة، والراقصات، والجمهور الغافل؛ الذي ينهي الصلاة سريعاً، ثم يتسابق على السوق لشراء البطيخ من عربات الباعة الجائلين، كما لم يأمن من انتقاداته رئيس الجمهورية، والصلح مع إسرائيل؛ الأمر الذي أودى به إلى المعتقل مرتين، وعرّضه للتعذيب، وأخيراً للبقاء رهن بيته تحت الإقامة الجبرية.

الشيخ كشك ترك نحو ألفي شريط كاسيت، تُسمع حتى اليوم في بعض البيوت، وعربات التاكسي و«الميكروباص»، وتبث أجزاء منها على مواقع بالإنترنت، لكنه ترك مع هذا طريقة في الأداء فريدة، و«كنزا من الإفيهات» لا ينفد وقابلا للاستعادة، ومقولات ذهبت أمثلة سائرة يتداولها الناس، ومقاطع تهكم مفصلية لاتزال تجلد من انتقدهم وشن هجماته عليهم رغم مرور العقود.

لو كان الشيخ كشك حياً اليوم لربما تهافتت عليه القنوات الدينية الـ25 التي تبحث عن نجوم فلا تجد، وتتخاطف الأسماء المحددة ذاتها، وتدفع لها الغالي والنفيس، أو تضطر إلى منح شاشتها لأنصاف النجوم وأرباع الموهوبين.

25 قناة تلفزيونية متخصصة بالدين، بين نحو 460 قناة ناطقة بالعربية، فضلاً عن حشد من البرامج الدينية كبير، سواء على القنوات العامة أو المتخصصة، قليلها يمنح الشاشة للجمهور، وأندرها يتخير من علماء الدين وواعظيه من هو جدير بالتحدث إلى الناس في شؤون الدين، ومن هو عالم بالتنزيل والتأويل، وعاقل يعرف ما الذي يجب أن يسلط عليه الضوء اليوم، وفي أي سياق، ومجتهد قادر على التفريق بين اعتبارات الآن وظروف ومحددات عصر تبدلت عليه الدول والأحوال والقرون.

لو كان الشيخ كشك حياً لوجد مادة خصبة أكثر دسامة وتشويقاً لشن الهجمات وتعليق المشانق؛ فثمة «روبي»، و«نانسي»، و«هيفاء»، وهناك «الفيس بوك»، و«اليوتيوب»، و«تدخين الشيشة»، وطابور طويل من السياسيين الذين يمكن التندر بخطلهم فضلاً عن انحرافهم عن «الدين السوي» كما يفهمه الشيخ.

كان الشيخ، رحمه الله، نجماً بلا منازع في عصر شحت نجومه، وهو غاب اليوم حين باتت النجومية غنيمة سائغة لأنصاف متعلمين وناقصي أهلية يمكنهم جمع قطاع من الجمهور ليس قليلاً دون موهبة حقيقية أو جهد عميق.

كان الشيخ، رحمه الله، يشن هجماته على الجميع بلا استثناء، طالما كانوا حاضرين في الزمان والمكان، وكان يمجد الغائبين بلا استثناء، والذين أينعوا «في هذا العصر المشرق الذي مر ضوءاً باهراً بلا أخطاء قبل 1400 عام». لكنه مع ذلك، كان شجاعاً، استمد قوته من ضعفه، واتسعت حيلته بقلة حلوله وبدائله، وزاده فقره زهداً وتعففاً، وقد كان ضريراً فـ«ليس عليه حرج».

اليوم يأتي المبصرون من أتباع المدرسة ذاتها، فلا يرون بأعينهم المفتوحة سوى دروب المصلحة والنفعية المقيتة؛ فيداهنون صاحب المحطة أولاً، ورئيس دولة المقر، والدولة التي يخضع لها الممول، ولا يتحدثون في السياسة إلا فيما يتعلق بتكريس الطائفية والهجمات على أتباع المذاهب الأخرى. وأخيراً؛ فهم لا ينتقدون الجمهور وينددون بلهوه وانصرافه للفساد والباطل؛ لكنهم ينافقونه، ويدللونه، ويكرسون أنفسهم لخدمة نزواته، طالما كثّف المشاهدة، فالإعلان، فالاتصال، والـ«إس إم إس».

* كاتب مصري