ما كشفته تقارير مخابراتية أميركية لاحقاً من أن المبادرة المعروفة بـ «مبادرة روجرز» لم تكن سوى «فقاعة اختبار»، والتعبير ليس من عندي، الهدف منها «إشغال أصحاب القضية بأمر مثير للجدل ومُختلَف عليه، لكنه لم يكن يوما مشروعاً جدياً للمفاوضات أصلا»!
في نهاية الستينيات من القرن الماضي، وفي أوج النشوة التي كان يعيشها الشارع العربي على خلفية حرب الاستنزاف المصرية الناجحة ضد العدو الإسرائيلي، ومعركة «الكرامة» التي خاضها الفدائيون الفلسطينيون من حركة التحرير الوطني الفلسطيني «فتح» بالتعاون والتنسيق المتميز مع الجيش العربي الأردني، تفتق العقل الإسرائيلي الصهيوني والأميركي المتصهين عن مؤامرة فذة فتتت كل الإنجاز العربي والفلسطيني الذي كان يتقدم بخطوات ثابتة باتجاه استعادة زمام المبادرة من العدو، وإعادة بعض الكبرياء العربي الذي تعرض لهزة كبيرة في حرب النكسة الشهيرة، فكان ما عُرف وقتها
بـ «مشروع روجرز» للسلام!
وروجرز، هو وزير خارجية أميركا وقتها، وجوهر المشروع كان يتلخص في «مبادرة»، كما سموها في حينه، تقضي بهدنة ثم مفاوضات قد ينتج عنها استرجاع لبعض الأراضي العربية ثم سلام بعد ثمة تطبيع ثم كلام ثم...، والهدف الرئيسي المعلن يومها هو التهدئة مع الدول العربية، أو مع ما كان يسمى بدول الطوق، على حساب الفلسطينيين. وانقسمت الطبقة السياسية العربية وقتها بين «مصدق» متفائل ومكذب متشائم. وعلى خلفية ذلك، انقسم الفلسطينيون أنفسهم أيضا بين مراع ومتريث يبحث عن مدارات للدول التي كانت تحمله على وهن! وبين رافض متحمس لاستمرار المقاومة والقتال، بل وبضرورة إسقاط «كل الأنظمة المستسلمة والمنبطحة والخائنة والمفرطة بالانتصارات الفلسطينية».
وحصل ما حصل يومها من انقسام عربي وفلسطيني واسع معروف، أدى فيما أدى إليه إلى ماعرف وقتها باقتتال «أيلول الأسود» في العام 1970، الذي راح ضحيته آلاف الفلسطينيين والأردنيين من فدائيين وجيش ومدنيين، ونُكب العالم العربي من جديد وصُدم بقوة يومها، وشاعت أجواء الإحباط والتشاؤم في الشارع العربي، ووصلت تداعيات الحدث إلى القيادات وفي مقدمها الرئيس عبد الناصر الذي تُجزم بعض الأوساط المقربة والعارفة بأنه ذهب ضحية تلك الأجواء السوداوية، وبعد أن يئس من استعادة جسور الثقة والتعاون والتنسيق بين الجيش الأردني والفدائيين التي كانت قد أفرزتها معركة «الكرامة» المشرفة. فوافته المنية كمداً في ظل أجواء عربية ممزقة وحزينة وقاتمة.
المهم في الأمر ليس هذا الذي سردته وكنت شاهداً عليه، وقد يعرفه كثيرون من «شهداء» ذلك العصر، بل المهم هنا، والذي قد لا يعرفه الكثيرون، هو ما كشفته تقارير مخابراتية أميركية لاحقاً من أن المبادرة المعروفة بـ «مبادرة روجرز» لم تكن سوى
«فقاعة اختبار»، والتعبير ليس من عندي، الهدف منها «إشغال أصحاب القضية بأمر مثير للجدل ومختلف عليه، لكنه لم يكن يوما مشروعاً جدياً للمفاوضات أصلا»!
وللمشككين بنظرية المؤامرة دوما نقول: ألم يأن الأوان أن نستفيق ونستيقظ بعد كل الذي جرى ويجري لنا منذ عقود؟! ألا يستحق الأمر منا بعض التأمل من جهة لما يخطط لنا تحت عناوين جذابة وبراقة لكنها كاذبة بالتأكيد، وأن نفكر ملياً بالحديث الشريف القائل: «لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين» من جهة أخرى؟!
ألم يقل شارون قبل أن يغط في موته السريري العميق «بأن الاتفاقات المبرمة مع العرب لا تساوي الحبر ولا الورق الذي كتبت به أو عليه»!
ألا تعتقدون معي أن كل ما يجري من ألاعيب تحت عناوين مختلفة من «سلام» أو مفاوضات أو تطبيع أو شروط تعجيزية تحت عناوين «الرباعية» أو «خارطة الطريق»، أو ...، ليست إلا ذَرّاً للرماد في العيون؟! وأن ما يطلق عليه من «سلطة» في الضفة أو القطاع سواء كانت تحت قيادة الثوار «الحماسيين» أم «المنبطحين» الفتحاويين! لا تعني إسرائيل شيئا لأنها لا تعتقد أصلا بوجود شريك فلسطيني، مطلق فلسطيني، يستحق أن يبقى على هذه الأرض أو يستحق الحياة، مجرد الحياة! ناهيك عن استحقاقه « للشراكة» في الحياة السياسية، فضلا عن السلام!!