عندما قررت «الجريدة» نشر مذكرات الدكتور أحمد الخطيب، فقد جاء ذلك القرار عن ادراك، ليس لأهمية ما ورد فيها من معلومات وأفكار وآراء فحسب، ولكن انطلاقا من رغبتنا في كسر حاجز وهمي طالما ظل يسيطر على الحياة السياسية الكويتية، وهو أنه على الرغم من ثراء وتنوع الفعل والنشاط الكويتي العام، إلا أننا نادراً ما نجد من يقدم تجربته من جيل الرواد لكي يتداولها الناس، ويتعرفوا عن كثب على شخصيات ورموز أثّرت وأثْرت وأعطت لبناء هذا الوطن، فأغلبية ما صيغ وما نشر من تلك التجارب لا تعدو كونها سردا طوليا، أو ملفات للصور، لا تحلل ولا تشرح بقدر ما تبين البعد الايجابي للشخص صاحب المذكرات، وقد ترتب على هذا نقص حاد وقصور شديد في المكتبة الكويتية الخالية من المذكرات الشخصية التي تمارس نقدا ذاتيا، وتلتزم الأصول المتعارف عليها لفن كتابة المذكرات، فكتابة المذكرات ليست كما قد يتصور البعض بأنها كتابة مؤرخين يستندون في كتابتهم الى مصادر موثوقة بالضرورة يتم استقاؤها من رسائل أو كتب، ولكنها سيرة ذاتية لصاحب المذكرات كما رآها هو، وكما فهمها هو، وكما عايشها هو، وهذا الامر يعني بالضرورة أنه قد تكون هناك حقائق مكملة غابت عن مشاهدة صاحب المذكرات، وهو أمر لا تثريب عليه، بل انه قد يكون حافزا لآخرين لأن يصححوا، ان كانوا يتصورون أن اغفالا ما قد حدث، دون الحاجة الى التجريح أو التجريم.

Ad

وهكذا كان قدر «الجريدة» أن تصدر في الوقت ذاته الذي انتهى فيه الدكتور أحمد الخطيب من كتابة مذكراته، فالتوقيت بالنسبة لنا كان فرصة لا تعوض للاقدام على هذه الخطوة، التي نسعى الى ان تتبعها خطوات أخرى مع شخصيات كويتية كانت لها اسهاماتها في مسيرة هذا الوطن، ونحن إذ نفتخر بأننا نشرنا مذكرات الدكتور أحمد الخطيب فإننا في الوقت ذاته نرحب بجميع الردود والتعقيبات.

من هذا المنطلق يأتي ترحيبنا بنشر رد الدكتورة سعاد الصباح التي نكن لها الكثير من المودة والاحترام، ونحن في «الجريدة» وإن كنا نقدر الرغبة الصادقة للدكتورة سعاد الصباح في تثبيت الدور الذي أداه زوجها ورفيق دربها الشيخ عبدالله المبارك في مسارات الحياة السياسية الكويتية حتى مغادرته الكويت عام 1961، إلا أننا نختلف مع بعض الأحكام والنعوت التي وصفت بها الدكتور الخطيب، ولكننا على أي حال ملتزمون بنشرها كما وصلت الينا من دون حذف أو تعديل من أي نوع.

لقد أوضح نشر مذكرات الدكتور الخطيب صحة ما ذهبنا إليه من الناحيتين المنهجية والاعلامية، فمن حيث المنهج فإننا فتحنا الباب لأسلوب جديد في التعاطي مع التطور السياسي في الكويت ظل مفقودا طوال هذه السنين، ونحمد الله اننا وفقنا في كسره مع شخصية بأهمية الدكتور أحمد الخطيب ورمزيته.

أما من الناحية الاعلامية فقد كانت المتابعة غير المسبوقة للمذكرات وتجاوب القراء معها دليلا آخر على أنه مازالت هناك مساحة واسعة لتقديم مادة ذات نوعية جادة ومقروءة في الوقت ذاته.

ولا يسعنا هنا إلا التقدم بالشكر للدكتورة سعاد الصباح على مسعاها الذي نعلم انه سيثير أيضا جدلا وردود أفعال نأمل ان تستمر، فتاريخ الكويت ليس ملكا لأحد، بل هو ملك للكويت كلها، وطالما اننا مازلنا نتنفس نسائم الحرية، فللجميع الحق -من دون استثناء - في أن يقول رأيه.

ردت د.سعاد الصباح في الحلقة السابقة (الثالثة) على أجزاء مما ورد في ذكريات د.أحمد الخطيب، لا سيما ما جاء عن أن الإنكليز وضعوا شروطاً قبل الاعتراف بالشيخ عبدالله السالم حاكما للكويت، ورأت أن ذكريات د.الخطيب تتسم بالانتقائية، وتجعل الكويت تبدو لقارئها ساحة فضاء بلا شيوخ أو حكومة أو أمير للبلاد، وتطرقت كذلك د.الصباح إلى موقف الكويت من العدوان الثلاثي على مصر.

إن قراءة ذكريات د. الخطيب تعطي الانطباع بأنّه وحده كان «المفكّر» و«المخطّط» و«المنفِّذ» لأهم الأحداث والتطوّرات السياسيّة التي شهدتها الكويت في حقبة الخمسينيات. فالكويت تبدو لقارئ الكتاب كساحة فضاء يصول فيها المؤلّف ويجول، وكأنّه لا توجد حكومة وشيوخ وأمير للبلاد.

وهو يتجاهل أنّ الوقائع والأحداث التي يفخر بمشاركته فيها لم يكن لأغلبها أن يتمّ دون موافقة أمير البلاد الشيخ عبداللّه السالم الصباح ونائبه الشيخ عبدالله المبارك. وأنّ الأنشطة الوطنية التي عبّرت عن مشاعر شعب الكويت، كالموقف من العدوان الثلاثي على مصر عام 1956، ودعم الثورة الجزائريّة، ومقاطعة التعامل مع إسرائيل، وإنشاء نادي الخريجين، والوحدة المصريّة- السوريّة، إلى غير ذلك من أنشطة... لم تتم من وراء ظهر الحكومة والشيوخ.

وكتاب د. الخطيب يتّسم بالانتقائيّة في عرض المعلومات... يذكر أشياء ويتحاشى ذكر أشياء أخرى هي جزء أصيل من الموضوع الذي يكتب عنه.

وعلى سبيل المثال، عندما يتعرّض لتأسيس النادي الأهلي يكتب «في تلك الفترة لم يكن بالإمكان إنشاء أندية ثقافية، فساهمت مع آخرين في تأسيس النادي الأهلي، بعد أن أقنعنا عبداللّه المبارك الصباح ليكون رئيساً فخريّاً للنادي... وبعد أن ثبّت النادي أقدامه رياضياً أوجدنا لجنة ثقافيّة تقوم بنشاطات ثقافية معتمدة على من هم في الكويت من أساتذة وكذلك زُوّار الكويت وكان عبداللّه المبارك حريصاً على أن يحضر هذه النشاطات حين يكون موجوداً في الكويت» (ص 117). ولكن الراوي لم يتذكّر من هم الآخرون الذي ساهم معهم في تأسيس النادي، تاركاً نفسه وحيداً بالاسم؟ ولم يذكر لنا لماذا ذهب إلى عبداللّه المبارك بالذات يرجوه قبول رئاسة النادي الأهلي؟... ولم يفسّر لنا لماذا كان الشيخ عبداللّه المبارك حريصاً على حضور الندوات كلّما وجد في الكويت؟، وهل مردّ ذلك إلى رغبته في المعرفة، أم لسبب آخر سوف يكتشفه ويكشفه لنا الراوي في القريب...؟ ولم يذكر الدكتور من هُم زُوّار الكويت المحاضرين؟

ولكي أعطي لكلّ ذي حق حقه لابد من استكمال المعلومات التي لم ترد في كتاب د. الخطيب، فالحقيقة أنّه في أغسطس عام 1952 تكوّنت الهيئة التأسيسيّة للنادي من عبدالرزاق سلطان مديراً، وعبدالعزيز جعفر سكرتيراً، وعبداللطيف أمان أميناً للصندوق، وعضوية كل من مجرن الحمد ومحمد عبدالرزاق وخالد جعفر ود. أحمد الخطيب وعبداللّه يوسف الغانم ويوسف إبراهيم الغانم.

الرياضة عنوان الشهامة

وللتاريخ أيضاً، ففي كلمته التي ألقاها في حفل الافتتاح، أكّد الشيخ عبدالله المبارك تقديره لدور الرياضة وقال «إنّ الرياضة في الأمم المتحضّرة أصبحت عنواناً للشهامة، وروح التعاون، ونشر الفضيلة والاستقامة والخلق الطيب». وفي الكلمة التي ألقاها خالد يوسف النصر الله عضو النادي، أشاد بقيام النادي، وأنّه سيكون بداية لإنشاء أندية أخرى للمعلمين والموظّفين والطلبة.

وفي الشهر التالي مباشرة، سبتمبر 1952 ألقى الأستاذ يونس البحري صاحب «جريدة العرب» محاضرة عن قضية العرب، وكان حضوره بدعوة واستضافة من الشيخ عبداللّه المبارك، وكان المحاضرون أكثرهم ضيوف الشيخ عبدالله المبارك. وحديث المؤلِّف عن مقاطعة البريد والبضائع الإسرائيلية تعطي انطباعاً للقارئ وكأنها كانت نشاطاً معادياً لتوجّهات الحكومة، أو على الأقل يتم رغم أنفها ويعطي لنفسه وللجنة الأندية الفضل الأكبر، فيذكر أنّ اللجنة كانت وراء إنشاء مكتب مقاطعة إسرائيل الرسمي في دولة الكويت (ص 121).

وهذا الانطباع غير صحيح جملة وتفصيلاً، وما أشار إليه المؤلِّف كان سياسة رسمية لحكومة الكويت، ففي 11 أغسطس عام 1957 أنشأت الكويت مكتباً لمقاطعة إسرائيل أسوة بالدول الأعضاء في جامعة الدول العربية، وأصدرت إدارة الجمارك تعليمات بتنفيذ قواعد مكتب المقاطعة وهو الأمر الذي لم ترحِّب به لندن وواشنطن. وفي27 نوفمبر من العام نفسه، أرسل الوكيل السياسي مذكّرة احتجاج إلى الشيخ عبداللّه المبارك - القائم بأعمال الحاكم - يعتبر فيها تطبيق قرارات المقاطعة بمنزلة عمل ضار بالتجارة والسفن البريطانية، كما أبلغه أنّ الحكومة الأميركية تعارض كل أشكال التمييز، وفي أكتوبر عام 1958، عقد ضابط اتصال المكاتب الإقليمية لمقاطعة إسرائيل مؤتمرهم السنوي في الكويت.

وفي 14 أغسطس 1958، صرّح الشيخ عبداللّه المبارك لجريدة الأهرام «إن الكويت سيظل مع إخوانه العرب يقاسمهم السرّاء والضرّاء، ويشاركهم في خيرهم وفي شرّهم. ولا شك عندي في أنّ مصدر القلاقل والاضطرابات يعود أولاً وقبل كل شيء إلى وجود عنصر دخيل على وطننا العربي وهو إسرائيل...» وناشد الدول المعنيّة بأمر إسرائيل «الاعتراف بحق شعب فلسطين في عودته إلى وطنه المغتصب ومساعدته بكل الوسائل في ذلك».

وقال الشيخ عبدالله المبارك «إن بترول الكويت حرام على إسرائيل وعلى كل من يحاول إيصاله إلى إسرائيل. وقد اتّخذنا كل الإجراءات الصارمة حتى لا يتسرّب هذا البترول العربي إلى عصابة اغتصبت جزءاً عزيزاً من الوطن العربي. ولقد حصلنا على تعهدات من شركات البترول لتلتزم مبدأنا بمنع وصوله إلى عدوّنا. فإذا ما أخلت شركة بهذا الالتزام حُرمت من التعامل في بترول الكويت، الذي هو جزء من ثروة العرب». وفي تقرير للقنصل الأميركي بتاريخ 3 مارس عام 1959، ورد أنّه «في بعض الحالات فإنّ السلطات الكويتيّة طبّقت القواعد بشكل أكثر تشدّداً مما يتطلّبه مكتب المقاطعة» [From American Consulate (Seelye) to Department of State, March 3, 1959]. وشدّد الشيخ عبدالله المبارك على ضرورة الدعم العربي للفلسطينيين والقضية الفلسطينية، التي وصفها بأنها «تستحق تعبئة كل الإمكانات العربية تعبئة كاملة من أجل إعادة الحق إلى أصحابه الذين فقدوه في ظروف تعسة... وهي ذمة في أعناقنا ونتمنّى أن يُتوحّد لحلها حلاًّ حاسماً [جريدة الأهرام 1 مارس 1956].

تأبين الملك غازي

ويتضمّن كتاب د. الخطيب إشارات إلى وقائع من الصعب تصديق حدوثها، فعلى سبيل المثال، يذكر د. الخطيب «أن تأبين وفاة الملك غازي ملك العراق في المدرسة المباركية أغضب الشيخ أحمد الجابر وأدّى به إلى إخراج ولديه جابر وصباح من المدرسة» (ص 38). فهل يُعقل أن يعبّر حاكم الكويت عن غضبه بمثل هذا الإجراء السلبي؟ وأ لم يكن في استطاعته أن ينفّذ عقوبات رادعة تجاه المسؤولين عن المدرسة إذا صدق فعلاً أنه غضب بشأن ما قاموا به.

أو إشارته إلى أحداث تتضمّن أنّ الشيخ عبداللّه السالم أمير البلاد كان يقوم بالتنسيق معه، مثل قوله في تعليقه على أحداث عام 1956«وأشار إليّ بأن نتصرف مثلما عملنا بالسابق، وفهمت الإشارة... وهكذا رفعنا الحرج عن عبداللّه السالم بتوزيع الأدوار كما كنّا قد عملنا في تأميم البريد» (ص 147). ومن أمثلة ذلك أيضاً ما أشار إليه من قيام الشيخ جابر الأحمد مدير الأمن العام بالأحمدي في15/ 9/ 1959 بإصدار قرار يلزم فيه شركة النفط بتلبية مطالب العمّال (ص 181).

كلام يثير الاستغراب، فالمقربون من الشيخ عبدالله السالم والعائلة لم يسمعوا في يوم من الأيام بأن الدكتور الخطيب قريب من الحاكم أو يستشيره أو «خوش بوش معه». وما ذكره المؤلِّف صحيح بإصدار القرار، ولكنّه يثير السؤال عمّا إذا كان من الممكن أن يصدر الشيخ جابر الأحمد مثل هذا القرار دون موافقة رئيسه عبدالله المبارك. وهناك القصة التي من المفروض علينا تصديقها، التي يروي فيها اللقاء العاصف مع الشيخ فهد السالم الذي انتهى وفق قول الراوي «أعطاني الله القوّة لأضع عقاله في رقبته وأبطحه على الأرض» (ص111)... تمنّيتُ لو أن الدكتور خاطب الناس على قدر عقولهم!

كذلك أشار د. الخطيب إلى أن الإنكليز تأخّروا في الاعتراف بالشيخ عبداللّه السالم حاكماً على الكويت، وأنّهم وضعوا شروطاً لذلك تتمثل في قبول مستشارين إنكليز.

والحقيقة التي تكشف عنها الوثائق أنّ (الإنكليز سعوا إلى تقوية نفوذهم في الكويت وذلك بتعيين مستشار لحاكم الكويت، سواء كان اختصاص هذا المستشار عاما أو يقتصر على الشؤون المالية)، وكان أول اقتراح في هذا الشأن في ديسمبر 1938، عندما اقترح الوكيل السياسي البريطاني تعيين مستشار، بصفة مؤقتة أو دائمة. ولكن الشيخ أحمد الجابر لم يوافق على الاقتراح بدعوى عدم حاجة حكومة الكويت إلى ذلك، وأنه إذا دعت الحاجة فسوف يسترشد برأي الوكيل السياسي. واتخذ نفس الموقف بشأن فكرة استقدام خبير بريطاني لتنظيم الجمرك.

وفي عام 1944، كرّر الوكيل السياسي المحاولة واقترح أنّ هناك حاجة إلى تعيين مستشار مالي يتولّى مسؤولية إعداد الميزانية. وقبلت السياسة البريطانية لفترة أن يكون هذا المستشار من سورية أو مصر بشرط أن يكون من المؤيدين لبريطانيا. ولكن تمّ التراجع عن فكرة الاستعانة بالخبرات العربية، خشية أن يؤدي ذلك إلى تراجع النفوذ البريطاني في الكويت.

بريطانيا تضغط لتعيين مستشار مالي

(واستمرّ الضغط البريطاني على حاكم الكويت من أجل الموافقة على تعيين مستشار، وفي مجال المناورة مع هذه الضغوط، أبلغ الشيخ أحمد الجابر المقيم السياسي في نوفمبر 1947 بأنه يفكر في استقدام مستشارين بريطانيين. وفي مارس 1948 ذكر حاكم الكويت للمقيم السياسي أنه يريد مستشاراً مالياً ولكن طلب من السلطات البريطانية ألا تتعجله في ذلك).

ولم تتمكن السلطات البريطانية من تعيين مستشار عام أو مالي، مؤقت أو دائم، طوال حكم الشيخ أحمد الجابر حتى وفاته في نهاية يناير عام 1950، وذلك بسبب حرصه على استقلاله الداخلي.

حاولت الدبلوماسية البريطانية استغلال حادثة وفاة الشيخ أحمد الجابر، فطلب الوكيل السياسي جاكسن من المقيم السياسي تأخير الاعتراف بتولي الشيخ عبداللّه السالم الحكم إلى حين أن يتخذ قراره بشأن مستشار. ولكن المقيم السياسي كان له رأي مخالف، وهو ضرورة عدم التأخّر في الاعتراف بالحاكم الجديد والحفاظ على حسن العلاقات معه. وتبنّت وزارة الخارجية رأي المقيم السياسي البريطاني، وبالفعل، في 16 فبراير، أي بعد أسبوعين من تولّي الشيخ عبداللّه السالم مهام منصبه، أرسلت الحكومة البريطانية اعترافها به، وبالتالي، لم يكن هناك شروط تم إبلاغها للشيخ عبداللّه السالم أو أحيط بها علماً وكان هذا النقاش حول المستشار يدور في داخل أروقة الدبلوماسية البريطانية.

وأخيراً، وليس آخراً، هناك ما يرويه د. الخطيب بشأن ما حدث في أعقاب وفاة الشيخ عبداللّه السالم فيذكر، أنّه عندما وصل عبداللّه المبارك الكويت: «واجهه جابر العلي بشراسة مفرطة طالباً منه مغادرة الكويت حالاً، وهذا ما حصل» (ص 269)، وأضاف أنه عندما سأل جابر العلي عن لماذا تصرّف بهذه الطريقة غير اللائقة، أجابه أن عبداللّه المبارك يمكن أن يتّصل بالإذاعة ويعلن «أنّه سيستقبل المعزّين عنده، ويعتبر ذلك مبايعة من الكويتيين له ويفرض نفسه علينا، فيجب ألا أعطيه هذه الفرصة» (ص 169). والحقيقة غير ذلك تماماً، فعندما مرض الشيخ عبدالله السالم في عام 1965، حضر الشيخ عبداللّه المبارك لزيارته، وعندما توفّاه الله، عاد الشيخ عبدالله المبارك مرّة ثانية لحضور مراسم الدفن. وشارك في تقبّل العزاء وقتها، قام الشيخ صباح السالم، وقبَّل رأس عمّه الشيخ عبدالله قائلاً له «الحكم لك يا عمّي»، فردّ الشيخ عبدالله بأنه «جاء ليتقبل العزاء بوفاة حاكم الكويت ابن أخيه سالم»، وقال «أنا أثق بكم، وأبارك في اختياراتكم». وبعد انتهاء فترة العزاء، سافر إلى القاهرة وكان في وداعه أمير البلاد والشيوخ.

علاقة الشيوخ مبنية على المودة والاحترام

والحقيقة الثانية التي يعرفها الجميع أن، لا الشيخ جابر العلي ولا غيره من الشيوخ يتصرّف بطريقة غير لائقة أو يرفع صوته أمام عمّهم عبداللّه المبارك- أو على من أكبر منهم سناً- فعلاقتهم مبنيّة على المودّة والاحترام فهذه الرواية مشابهة لرواية الشيخ فهد السالم، ولكن ما سمعنا أن د. الخطيب أوحى لبعض المقربين بما ذكره في كتابه عن حادثة الشيخ جابر العلي.

والقارئ المدقِّق لكتاب ذكريات الدكتور الخطيب لابدّ أن يتوقّف أمام الأحكام التاريخية الجائرة التي أطلقها المؤلّف على الشيخ مبارك الكبير.

ذكر د. أحمد الخطيب أنّ كتابه يتضمّن ذكرياته عن الأحداث التي شهدها وحضرها، وأنّها تُعبّر عن رؤيته لهذه الأحداث وليست رؤية آخرين. لذلك، كان ينبغي عليه عندما يتعرّض إلى أحداث تاريخية لم يشهدها أو يعايشها أن يرجع إلى الكُتب والدّراسات التي صدرت بشأن هذه الفترة، حتى يمكن لآرائه أن تكون موضوعية، ولأحكامه أن تكون متّفقة مع نتائج هذه الدّراسات.

ولكن د. الخطيب لم يفعل ذلك عندما أشار في أكثر من موضع في كتابه للشيخ مبارك الكبير. وعبّر عن موقفه تجاه فترة حكمه، عندما أشار إلى ما أسماه «تمرّد هلال المطيري وشملان بن علي وإبراهيم بن مضف 1911 بسبب كثرة حروبه الفاشلة التي كانت نتيجتها الإضرار بموسم الغوص لانشغال رجال الكويت بهذه الحروب العبثية» (ص 89). ولا أعرف الأساس التاريخي الذي استند إليه د. الخطيب للوصول إلى هذه النتيجة الغريبة، والتي ينفرد بها من دون كل المؤرّخين الكويتيين والعرب والأجانب، والذين أكّدوا جميعاً أن مجمل حروب الشيخ مبارك كانت لحماية أمن القبائل الكويتية، ولتحديد حدود الكويت، والتي من دونها ما كان يمكن الحفاظ على الحدود الحالية للدولة.

ويكفي أن يطّلع الباحث على نصوص المراسلات الدبلوماسيّة البريطانيّة، وتقارير الوكيل السياسي البريطاني في الكويت خلال هذه المرحلة، ومطالب الشيخ مبارك بشأن حدود الكويت، وإدراكه بأنك لا يمكن أن تُطالب بما لا تُسيطر عليه فعلاً، أو بما لا تملك القوّة الكافية لحمايته إذا حصلت عليه.

تحديد حدود الكويت

(ولم يكن تحديد حدود الكويت أمراً سهلاً أو يسيراً، وخاض الشيخ مبارك معركة طويلة مع الدولة العثمانية من أجل حماية حدود بلاده)، وذلك إزاء سعي السلطات العثمانية تقليص أراضي الكويت عقاباً لها للشيخ لحرصه على استقلال حكمه. وشجّعها في ذلك رغبتها في بسط نفوذها بدعم من ألمانيا على منطقة تصلح نهاية لخط سكة حديد بغداد. وعلى سبيل المثال، ففي عام 1902 احتلّت القوّات العثمانيّة بوبيان وأم قصر وسفوان ومناطق أخرى مجاورة لرأس خور الصبية، وذلك بدعوى أنّ كل هذه المناطق لا تدخل في حدود الكويت.

وأستطيع أن أكتب عشرات الصفحات حول هذا الموضوع الذي مثّل الشغل الشاغل لكثير من المؤرِّخين الذين اهتمّوا بالصراع الدولي على الكويت في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين. لذلك، أعجب من «الخفّة» التي تناول بها د. الخطيب هذا الموضوع.

لقد أدرك الشيخ مبارك أنّ التجارة هي عصب الحياة للكويت والكويتيين. لذلك، سعى بكل السُّبل إلى إيجاد البيئة المناسبة لزيادة حركة التجارة، مما أدّى إلى ازدهارها في عصره ازدهاراً واسعاً. فقد سهر الشيخ على تحقيق جوٍّ من الأمن والأمان، ومحاربة أنشطة القراصنة، وحفظ التجارة من السَّلب والنهب، وإنزال العقاب الصارم على من يعتدي- برّاً وبحراً - عليها وعلى أهلها.

ويسجّل التاريخ كم من مرّةٍ قاد فيها الشيخ بنفسه حملات لمعاقبة القبائل التي تعرّضت لقوافل التّجار الكويتيين، أو لتدمير السفن التي قامت بأعمال القرصنة، وكان من شأن ذلك تأمين أرواح التّجار وانتعاش أنشطتهم.

وترتّب على ذلك أن (أصبحت الكويت منطقة جاذبة لأصحاب الحرف والمهارات من نجد وفارس والعراق والإحساء، والذين فضّلوا الحياة في الكويت وممارسة أنشطتهم فيها). كما شجّع الشيخ صناعة السفن الكبيرة والتي استطاع بها التّجار أن يصلوا بتجارتهم إلى الهند وما بعدها، وعقد اتّفاقية مع شركة السفن البخارية الهنديّة البريطانية لكي ترسو سفنها في ميناء الكويت لنقل الركّاب والبضائع وذلك بمعدّل باخرة كل أسبوع. وسمح ذلك للتجّار بالتردّد على الهند مرّةً كل شهر بلا مشقّة أو عناء. ولتسهيل أعمالهم، قام الشيخ بإنشاء وكالة له في بومباي لمساعدة الكويتيين الذين يتردّدون عليها، وأدارها سالم السديراوي، وبعده ابنه محمد.

شهادات للتجار

وفي مجال إثبات الهويّة الكويتية للتجار والسفن التابعة لهم، أصدر الشيخ شهادات للتجار تؤكِّد انتماء حامليها لأهالي الكويت. كما أصدر شهادة مماثلة للسفن التي يملكها كويتيون وذلك لتسهيل أعمالها في الموانئ التي تتوقف فيها. في هذا الإطار، فإنّ وصف ما فعله هلال المطيري وزملاؤه بالتمرّد فهو إسقاط من جانب المؤلِّف على أحداث كان يحكمها منطق مغاير وفي زمان مغاير يعود إلى قرن مضى من الزّمان. وهذه الحادثة تمّ عرضها بالتفصيل في الكتب الرئيسيّة عن تاريخ الكويت مثل كتاب مؤرّخ الكويت الأول عبدالعزيز الرشيد وكتاب سيف مرزوق الشملان وكتاب حسين خلف الشيخ خزعل.

وحقيقة الأمر، أنّه في أعقاب موقعة هدية عام 1910 واحتياج الشيخ مبارك إلى المال لشراء السلاح، فرض ضريبة جديدة على تُجّار الكويت وخصوصاً تُجار اللؤلؤ. وعندما امتنع بعضهم عن دفع هذه الضريبة، أصدر الشيخ أوامره في عام 1911 لمنع السماح بالغوص للممتنعين عن دفعها، وذلك كوسيلة للضغط عليهم. اعترض تُجار اللؤلؤ على هذا القرار، وسعوا إلى مقابلة الشيخ لإبلاغه بالضرر المالي الذي سوف يقع عليهم من جرّاء ذلك لأن نشاط الغوص هو مصدر ثروة الكويت وأساس تجارتها، ولمّا وجدوا إصراراً منه، قام أغلبهم بدفع الضرائب المقرّرة.

سار في هذا الاتجاه أغلبية التُجار ما عدا ثلاثة منهم وهم هلال بن فجحان المطيري، وإبراهيم بن مضف، وشملان بن علي. فاستدعاهم الشيخ وأنّبهم على رفضهم دفع الضريبة. وخوفاً من ردّ فعله، قاموا بمغادرة الكويت وسافروا إلى البحرين ومنطقة «جنة» في الإحساء.

ترك هذا الأمر أثراً بالغاً في نفس الشيخ الذي كان يدرك قيمة التجارة والتُجار لاقتصاد الكويت. فأرسل وفداً لمصالحتهم على رأسه علي بن سيف، لكن الوفد فشل في إقناعهم بالعودة. فقام الشيخ بإرسال نجله الشيخ سالم حاملاً معه رسالة من والده يحثّهم فيها على العودة، ويطمئنهم داعياً إيّاهم لتناسي ما حدث. ونتيجة لذلك عاد الجميع ما عدا هلال المطيري.

ونصح تُجار الكويت الشيخ مبارك بضرورة تدخّله شخصياً لإقناع هلال المطيري بالعودة. فسافر الشيخ إلى البحرين في يخته «مشرف»، ومعه كل من إبراهيم بن مضف وشملان بن علي. واعتبر هلال المطيري أن حضور الشيخ هو أكثر من ترضية كافية، وعاد الجميع إلى الكويت وانتهت المشكلة.

موضوع آخر يعرض له د. الخطيب بشكل لا يتّفق مع حقائق التاريخ وهو موضوع مغادرة حافظ وهبة والشيخ محمد الشنقيطي الكويت، فيذكر أنّ ذلك تمّ بأمر من الشيخ مبارك لدعمهما الموقف العثماني وانتقاداهما لبريطانيا وذلك أيام الحرب العالمية الأولى.

والحقيقة أيضاً تُخالف هذه الصورة المبسّطة لما حدث، فقد كان الرجلان ممن يقومون بالتدريس في المدرسة المباركية، وممن يشاركون في إلقاء المواعظ والخطب الدينية. وخلال الحرب العالمية الأولى، اتّهم الوكيل السياسي البريطاني الشنقيطي ووهبة بأنّهما كانا وراء تحريض الكويتيين على اتّخاذ موقف معادٍ لبريطانيا. فقام الشيخ مبارك باستدعائهما بحضور الوكيل السياسي جراي، وبادرهما بالقول أنه: «من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه»، وقال: «أنا مسلم عثماني أغار على ديني وعلى دولتي ولا أحبّ مَن يتعرّض لهم بسوء غير أنني اتفقت مع الإنكليز على أمر فيه نفع لي ولبلدي، ولهذا لا أرضى بالطعن فيهم وإن كنت لا أحبّهم وديني غير دينهم».

وقرعهما على ما وصل إليه من أخبار بشأن دورهما في تحريض الأهالي، فأجاب كلاهما بالنفي وأنّهما، لا يتحدّثان في أمور السياسة وإنّما يركّزان على الوعظ والإرشاد والتربية والتعليم. فطلب منهما الشيخ مغادرة المجلس.

وبعد مغادرتهما، ذكر الوكيل السياسي أنّه اقتنع بحديث حافظ وهبة بينما مازال مرتاباً في الشنقيطي، وعندما سأله الشيخ عن الإجراء الذي يقترح الوكيل اتّخاذه بشأن هذين الرجلين، أجابه بأنّه سيخبره به بعد ثلاثة أيّام. ويبدو أنّ الوكيل السياسي أراد أن يستفيد من هذه المدّة في إبلاغ رئيسه المقيم السياسي في البحرين بما حدث، واستشارته بشأن ذلك.

وخلال هذه الأيام الثلاثة، كان الشنقيطي قد غادر الكويت متّجهاً إلى الزبير. وكما يسجلّ عبدالعزيز الرشيد فإنّ ذلك لم يكن هرباً من الكويت بل بإيعاز من الشيخ مبارك نفسه. فيذكر أن عبداللّه العبدالمحسن العساف وكيل الشيخ وأحد المقرّبين إليه قال: «استدعاني الشيخ مبارك إليه، ولما أقبلت إلى مجلسه قام على الفور وصحبني إلى الخارج، وقال لي كلاماً كان لا يريد أن يسمعه من في المجلس، طلب فيه أن أذهب فوراً وأجهّز جملاً للشنقيطي وأدفع له عشرين ريالاً وأسأله أن يُغادر الكويت قبل حلول النهار، وأن أكتم الأمر عن الجميع. وقد قُمت بتنفيذ طلبه، فغادر الشنقيطي الكويت قاصداً الزبير».

وفي مجال التعليق على هذه الحادثة لابُدّ أن نتوقّف أمام أسباب حضور الوكيل السياسي هذه المقابلة، مما يشير إلى أن المقابلة قد تمّت أصلاً بناء على طلب الإنكليز. كما تُشير إلى أنّ قيام الشيخ مبارك بالإيعاز للشنقيطي بمغادرة الكويت وتحمّل نفقات سفره كان لحماية الشنقيطي من احتمال طلب بريطانيا القبض عليه. فليس في الطريقة التي دبّر بها سفر الشنقيطي ما يشير إلى رغبته في الانتقام منه.

والحقيقة أن فترة الشيخ مبارك كانت فترة ازدهار تجاري واقتصادي كبير، وأودُّ أن أدعم ما أقوله باقتباسين من كتابات شخصيتين كويتيتين بارزتين.

الأول، هو عبدالعزيز الرشيد الذي وصف اهتمام الشيخ مبارك بالتجارة والتُجار في كتابه بعنوان «تاريخ الكويت» بقوله: «كان يفتح خزائنه لتُجّار بلده ويمدّهم منها بمئات الألوف وعشراتها ليتاجروا بها ويبيعون قسماً من تمر أملاكه في البصرة ويمهلهم بالقيمة إمهالاً طويلاً. كل ذلك رغبةً في نمو تجارتهم وزيادة ثروتهم ولقد كانت تصيبه الانفعالات العظيمة إذا ما أصيب أحدهم بخسارة في الأموال والأولاد». والثاني، هو يوسف بن عيسى القناعي أحد رُوّاد الإصلاح في الكويت والذي ذكر في كتابه بعنوان صفحات من تاريخ الكويت «أنّه في عهد مبارك اتّسعت الكويت وزاد العمران، وصار لها اسم كبير في خليج فارس، واستتب الأمن في بادية الكويت وزادت الثروة، وتقدّمت التّجارة، وأخذت البواخر تمر الكويت في ذهابها للبصرة ورجوعها، وبلغ الغوص على اللؤلؤ الحدّ النهائي في الاتّساع في السفن والمحصول».

ويبدو أنّ ما ذكره د. الخطيب بشأن الشيخ مبارك يعكس موقفه العام تجاه أسرة الصباح والذي لم يقتصر على الشيخ مبارك وإنّما امتدّ أيضاً إلى ابنه الشيخ عبداللّه المبارك.

(يتبع)