الاستقلال الكارثي
لا اعتراض على استقلال كوسوفو من حيث المبدأ، ولا على تمتع شعبها بحقه في تقرير مصيره. فالمشكلة ليست هنا، بل في أن الاستقلال ذاك يرسي سابقة قد لا يستلهمها زمننا هذا إلا على نحو كارثي، وهو الزمن المتّسم بيقظة الهويات الصغرى والعضوية والأولية وبأزمة الدولة الوطنية.
هل يكون استقلال إقليم كوسوفو وانبعاثه «دولة مستقلة ذات سيادة» فاتحة موجة من الاستقلالات تعم العالم، كتلك التي أعقبت نهاية الحقبة الاستعمارية، البريطانية-الفرنسية (أساساً لا حصراً)؟ وهل سنشهد في مستقبل الأيام دولاً تبرز إلى الوجود بقدر ما على وجه هذه الأرض من أعراق وإثنيات وطوائف وفئات تأنس في نفسها تمايزا ما؟كثيرة هي الدول التي تتوجس ذلك، حتى في ذلك الغرب الأوروبي الذي محض ألبان كوسوفو حدَباً وعطفاً، وجيّش القوات عدة وعتاداً لنصرتهم ضد مضطهدهم ومبيدهم طاغية صربيا السابق سلوبودان ميلوسيفيتش. فقد أقبلت بلدان الاتحاد الأوروبي على واقعة استقلال كوسوفو فرادى أشتاتاً، بعضها سارع إلى الاعتراف، وبعضها الآخر تحفظ وتلكأ، شأن إسبانيا، التي تخشى انفصال سكانها الباسك، أو قبرص التي لا تطمئن لنوايا أتراكها. وإذا كانت هذه حال أوروبا (أو بعضها)، وهي القارة التي قد تجد في أخذها بالديموقراطية وبمبدأ حرية الأفراد والجماعات حصانةً من الانقسام أشلاءَ كيانات، فكيف بسواها من السواد الأعظم من بلدان العالم الذي يدين ببقاء كياناته لاعتماداه قدراً من القسر يسيراً أحياناً أو شديداً في الغالب. ذلك أن سابقة استقلال كوسوفو إن استوت قاعدة، فإنها ستكون مقدمة لاضطراب شامل عظيم. لا يقال ذلك من باب استكثار نيل الاستقلال على أبناء تلك المنطقة أو تبخيس حقهم فيه، ولكن من باب التبصّر البارد، بتبعات ذلك الحدث ومغباته. فإذا ما كان ذلك الحدث فاتحة موجة من الاستقلالات على منواله، فسيظل شبهها بتلك التي سبقتها في نهاية الحقبة الاستعمارية محدوداً شكلياً، فإذا كانت هذه الأخيرة قد تحققت على أنقاض فضاءات إمبراطورية ومناطق نفوذ، فإن تلك الآنفة الذكر ستنال من دول وكيانات قائمة أي من مراكز لا من أطراف ومناطق نفوذ.يكاد استقلال كوسوفو، من زاوية النظر هذه، يكون لحظة التقاء نمطيْ الاستقلال هذين وافتراقهما في آن. فالمنطقة تلك ليست أول كيان جديد يُبعث إلى الوجود بعد نهاية الحرب الباردة في ذلك المجال الممتد من أوروبا الشرقية والبلقانية إلى آسيا الوسطى مروراً بالقوقاز، واستقلالها، من هنا، يندرج في مسار تفكك إمبراطوري هو ذلك الذي ألمّ بالاتحاد السوفييتي، وتزامُنا، بإمبراطورية أخرى صغرى وشقيقة، هي تلك التي أقامها جوزيف بروز تيتو في يوغسلافيا، وهو مسار «تقليدي»، إن جازت العبارة، في مثل تلك الحالات، يعقب كل انهيار إمبراطوري، ويفضي إلى انعتاق أوطان أو قيام أخرى. غير أن استقلال كوسوفو، يمثل من ناحية أخرى، انفصالا عن أصل، إن وفق القانون الدولي وإن وفق مقتضيات التاريخ والجغرافيا، لمنطقة هي جزء من صربيا التاريخية وإن تمايزت عنها ديموغرافياً ودينياً ولغوياً، وهو (الاستقلال) من هنا ربما كان سابقة ترسي مساراً آخر، مسار تفكيك الكيانات. لا اعتراض على استقلال كوسوفو من حيث المبدأ، ولا على تمتع شعبها بحقه في تقرير مصيره. فالمشكلة ليست هنا، بل في أن الاستقلال ذاك يرسي سابقة قد لا يستلهمها زمننا هذا إلا على نحو كارثي، وهو الزمن المتّسم بيقظة الهويات الصغرى والعضوية والأولية وبأزمة الدولة الوطنية، وقد تواطأت على هذه الأخيرة تلك الهويات التي تتموقع دونها وواقع العولمة الذي يتجاوزها ويتخطاها، فيلتقي هذا وتلك على حرمانها من السيادة ومن مبررات الوجود، ديناميكيتان فاعلتان تتكاملان وإن من موقع النقيض.بطبيعة الحال، ليست الدولة الوطنية بالصنم الذي يُعبد في ذاته، فلتذهب إن حان أجلها التاريخي غير مأسوف عليها، خصوصاً إن تحولت إلى سجن لمواطنيها، لكن يتعين على زوالها، إن كان لا بد منه، أن لا يجري ارتجالا وتنطعاً واندفاعاً مغامراً، في عالم كعالمنا هذا، ما عادت تضبطه ضوابط، بنيان غالبية كياناته، لا سيما خارج المجال الغربي، هش مشرع على احتمالات حروب أهلية لا تبقي ولا تذر.وبالنظر إلى تلك الاعتبارات، قد يكون الغرب، وذلك الأوروبي على وجه التخصيص، قد تعامل مع قضية استقلال كوسوفو بقدر من خفة ومن أنانية، فلم يقدّر تبعاته وصداه خارج مجاله. فهو قادر على تحمل ذلك الانفصال محصّن حيال مفاعيله، يعلم أنه حيثما أخفقت الدول الوطنية في أن تكون جامعة، فإن الاتحاد الأوروبي، وهو أفق انتماء مطلوب مرغوب ومجال تحرر ورخاء، يمكنه أن يتولى تلك الوظيفة بديلاً عنها، فيستوي إطاراً، عابراً للأوطان، جامعاً ناظماً يخفف التوترات ويذللها، ولكن تلك ليست حال بقية أرجاء العالم حيث يمكن لتفكك الكيانات أن يفضي إلى خراب لا يعقبه خلاص، كما تدل أمثلة كثيرة، من الصومال إلى أفغانستان إلى العراق إلى أزمات أخرى كثيرة من ذلك القبيل، سافرة أو كامنة هنا وهناك.وتلك مخاوف جدية، ربما دلت على أن الحل الديموقراطي، يضمن لمختلف الفئات حقوقها في كنف تعايش غير نزاعي، يبقى، في الأمد المنظور، أفضل من الحل الانفصالي.* كاتب تونسي