Ad

دستور الكويت أحاط مبادئ الحرية والمساواة الواردة فيه بحصانة ذاتية تعصمها من أي اقتراح بتنقيح الدستور، سواء كان الاقتراح بالتضييق على الأفراد في ممارستهم حرية من الحريات التي حفلت بها مواد الدستور، أو بالتمييز بينهم تمييزاً يخل بمبدأ المساواة وتكافؤ الفرص الذي نص عليه الدستور في المواد(7) و(8) و(29)، وسواء كان الاقتراح بالتنقيح مقدماً من الأمير أو كان مقدماً من ثلث أعضاء مجلس الأمة.

في مقالي «وصيّتي للكويت ... إلا الدستور» المنشورة في عدد «الجريدة» الصادر يوم الاثنين الماضي، قلت إن الدساتير تتسم بثبات واستقرار لا يضفيان عليها قدسية ما، وإن من وضعوا الدستور الكويتي قد أثروا الحياة الديموقراطية بهذا الدستور، وإن التجربة الديموقراطية التي خرجت من رحمه، فأظلت المجتمع الكويتي بوافر ظلها، على الرغم من بعض السلبيات التي تخللتها، هي تجربة تنفتح على شعوب المنطقة لتنهل منها وتثير إعجاب العالم، الأمر الذي يجعل تنقيح الدستور مثل الطلاق أبغض الحلال، في ظل أوضاع العالم المتردية الآتية، حيث تسود قوانين الإرهاب الدستور ذاته (أبو القوانين) بما يجعل أي تعديل للدستور، هو عودة إلى الوراء في المنظومة المعروفة في عالمنا العربي بمنظومة التقدم إلى الخلف.

لكن الأمر في تعديل الدستور لا يمكن وصفه بأنه حلال أو أبغض الحلال عندما يتعلق الأمر بمبادئ الحرية والمساواة، التي حصنتها المادة (175) من الدستور من أي تنقيح لها للانتقاص منها أو المساس بها، فيما قضت به من أن الأحكام الخاصة بمبادئ الحرية والمساواة المنصوص عليها في هذا الدستور لا يجوز اقتراح تنقيحها إلا لمزيد منها.

وبذلك يكون دستور الكويت قد أحاط مبادئ الحرية والمساواة الواردة فيه بحصانة ذاتية تعصمها من أي اقتراح بتنقيح الدستور، سواء كان الاقتراح بالتضييق على الأفراد في ممارستهم حرية من الحريات التي حفلت بها مواد الدستور أو بالتمييز بينهم تمييزاً يخل بمبدأ المساواة وتكافؤ الفرص الذي نص عليه الدستور في المواد(7) و(8) و(29)، وسواء كان الاقتراح بالتنقيح مقدماً من الأمير أو كان مقدماً من ثلث أعضاء مجلس الأمة.

وقد استشهدت بنص المادة (175) من الدستور الكويتي في ندوة دعاني الى المشاركة فيها مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية في صحيفة الأهرام، وذلك لدى مناقشة التعديلات الدستورية الأخيرة في مصر، استشهدت في هذه الندوة بحكم المادة (175) من الدستور الكويتي، على الرغم من علمي بأن دستور مصر قد جاء خلواً من نص ٍمقابل لهذه المادة، ليقيني الذي لا يساوره شك، بأن هذا الحكم ليس في حاجة إلى نص دستوري يقرره، فهو مبدأ من المبادئ الدستورية العامة التي تعلو على الدساتير ذاتها، ويتقيد به أي تعديل لها.

حيث يرى جانب من الفقه الدستوري أن إعلانات الحقوق تسمو على الدستور ذاته (ديجي - مطوله في القانون الدستوري - الجزء الثالث - ص561).

ويرى جانب آخر من الفقه أنها في قوة الوثيقة الدستورية (د. مصطفى أبو زيد فهمي - النظام الدستوري المصري - ط. 1994).

وقد حدثني الدكتور عوض المر رئيس المحكمة الدستورية العليا الأسبق في مصر، في لقائي به في الكويت، في زيارته للمحكمة الدستورية بدعوة منها، أنه اطلع على أحكام صادرة من المحكمة العليا الألمانية، قضت فيها بعدم دستورية بعض مواد الدستور الألماني لمخالفتها للمبادئ الدستورية العامة، وهي مبادئ أعلى من الدستور ذاته، وأنه رحمة الله عليه، قال لي إنه لو اطلع على هذه الأحكام قبل ذلك لقضى بعدم دستورية بعض مواد الدستور التي بنيت عليها القوانين التي رفض الطعون بعدم دستوريتها، ولقبل هذه الطعون.

الأمر الذي تصبح معه مبادئ الحرية والمساواة خطاً أحمر في الدستور، لا يجوز تعديلها إلا لمزيد منها، كما أصبح كذلك خطاً أحمر في الدساتير كلها، سواء نصت أو خلت نصوصها من ذلك، في ظل اتجاه عالمي لتحول ديموقراطي في أنظمة الحكم جميعها، لمزيد من الحرية والديموقراطية والشفافية وتعزيز حقوق الإنسان، بما يعني أن يكون أي تعديل في الدستور لمزيد من الديموقراطية ولمزيد من الحرية والمساواة اللتين يقوم عليهما أي بناء ديموقراطي سليم.

ولا يجوز أن يتخذ من الإرهاب ذريعة لاختراق هذه المبادئ والنيل منها، فالنصوص الدستورية التي تنص عليها تعتبر أعز النصوص التي تملكها الدساتير، هي شرفها الذي يجب أن تحافظ عليه، هي قلبها الذي ينبض بالحياة والذي يميز نظام الحكم الذي يتحلى بها عن النظم الاستبدادية والقمعية.

فما قيمة أي دستور إذا لم يكفل للفرد حريته الشخصية (مادة 30) باعتبارها حقاً طبيعياً له لا يُمس، وما قيمته إذا كان يبيح لمكافحة الإرهاب المساس بهذه الحرية، والمتهم بريء حتى تثبت إدانته.

وما قيمة أي دستور إذا لم يعصم الفرد من القبض عليه أو تفتيشه أو حبسه أو تقييد حريته أو منعه من التنقل من دون إذن من القضاء، ولو كان متهماً في قضايا الإرهاب (مادة 31).

وما قيمة أي دستور إذا لم يوفر لمسكن الفرد حرمته، عندما يبيح دخوله وتفتيشه بغير إذن قضائي (مادة 38).

وما قيمة أي دستور إذا كان يجيز أن يطلق يد أجهزة الأمن في رقابة المراسلات البريدية والبرقية للأفراد والاطلاع عليها ومصادرتها بغير إذن من القضاء، ومن دون أي حد زمني (المادة 39).

إن مجموعة الضمانات التي نصت عليها المواد (30) و(31) و(38) و(39) من الدستور، ومجموعة الأشكال الإجرائية التي تنص عليها القوانين الصادرة تنفيذاً لنصوص هذه المواد، هي جوهر الحرية الشخصية، وأن مبدأ شرعية الإجراءات الجزائية هو مبدأ مكمل لمبدأ سيادة القانون الذي تقوم عليه الدولة القانونية.