مرت الذكرى الـ 45 على إقرار دستور 1962 وسط عواصف من الاضطراب السياسي، وأجواء الاحتقان والتأزم كادت تضع البلد على كف المجهول من جديد، ولكن رغم ذلك لم تكن الأيام الماضية طفرة طارئة أو مفارقة عابرة خلال العهد الدستوري بعقوده الأربعة!، فطوال سنوات مديدة قضيتها في الحياة الأكاديمية طالباً في العلوم السياسية، ومدرساً لمقرراتها، وباحثاً في بعض تخصصاتها العلمية لم يلفت انتباهي أن دستور دولة قد تعرض للتحريض المستمر، ومحاولات الإجهاض والسعي إلى الانقلاب عليه، أو تفريغ محتواه وتعطيله مثل الدستور الكويتي، ولم تخلُ السنوات الـ45 الماضية من حالات التأزم والتوتر السياسي وبدرجات مشابهة وقريبة من أحداث الأسابيع القليلة الماضية، والمفارقة الوحيدة، التي استمرت طوال العهد الدستوري ومطباته السياسية، هي التباهي بالدستور بغية التلميع الاجتماعي، وتزيين مناسباتنا الرسمية والوطنية بكلمات بروتوكولية في التغزل بالديموقراطية والتمسك بهذه الوثيقة القانونية!

Ad

صحيح أن الدستور الكويتي كأي دستور وضعي ليس قرآناً منزلاً، وقد لا يكون معياراً للمثالية السياسية والإنسانية، ولكنه يظل محل احترام وهيبة تصل إلى حد القدسية في ما يخص ضرورة الانصياع لمواده، والحفاظ على قواعده ما دام نافذاً.

وقد نتفق في مساحات كبيرة جداً على ما جاء في دستور 1962، وخصوصاً ما يتعلق بالمبادئ العامة، والحقوق المدنية، والحريات، وروح التعددية، وتقدير الإرادة الشعبية، والحفاظ على الثروة والأموال العامة، وتجسيد سيادة القانون، وقد نختلف حسب مصالحنا واجتهاداتنا الخاصة في ما يخص الصلاحيات والأدوات الدستورية وممارستها العلمية وتفعيلها سياسياً، ولكن يبقى الحد الأدنى هو المحافظة على هذه المرجعية العقدية مهما بلغت تلك الاختلافات، وهذا هو سر استمرار الأزمات المتلاحقة منذ عام 1963، حيث يبدو جلياً أن الخلاف ليس بالاجتهادات المتباينة وإنما في القناعات المتناقضة، فالدستور ولد في ظل وجود واستمرار من لم ولن يؤمن به، وما دامت مثل هذه القناعة باقية فلا مناص من دوام الخلاف والجدل حول أصل الدستور، وسوف تستمر تلك المحاولات لضربه ووأده والانقلاب عليه وتعطيله، وهذا ليس ضرباً من الخيال أو الوهم أو التجني من دون دليل.

فخلال العهد الدستوري تم تعطيل الدستور لمدة 15 سنة، وهي فترة تمثل ثلث الحقبة الديموقراطية شهدت خلالها إما تزوير الانتخابات العامة، وإما وقف العمل بمواد الدستور صراحة، وإما فرض بديل للسلطة التشريعية من خارج رحم الدستور، ومحاولة تنقيحه من جانب واحد، ناهيك عن التحريض المستمر على الديموقراطية، وترويج الإشاعات وبالونات الاختبار لحل مجلس الأمة للأبد.

ولأهمية الدستور وحتمية الدفاع عنه وحمايته، يكفي فخراً لهذه الوثيقة التاريخية، والأب الروحي للديموقراطية الحديثة المرحوم الشيخ عبدالله السالم، أنها احتضنت على مدى نصف قرن من الزمان المؤمنين بها والحاقدين عليها على حد سواء، ووسعت الديموقراطية لجميع الأطياف لممارسة السياسة على ملعبها، وتحت غطاء شرعيتها وقانونيتها ومرجعياتها، فهل يُبقي هذا الفضل شيئاً من ماء الحياء على وجه أعداء الدستور وسُلاب الديموقراطية؟!