من العجب في عالمنا السياسي العربي المليء بالغرائب أن هذا الخط الرفيع لا يمتد ليفصل بين الصفات بل يفصل بين الأفكار والأشخاص، فقد يسمح لك بمناقشة قضية ما أو التعبير عن فكرة بذاتها، ولكن لا يسمح لك إطلاقاً بالحديث عن صاحب هذه القضية أو المسؤول عنها.«بين الحب وغريزة التملك خيط رفيع» عبارة سطرها الكاتب الراحل إحسان عبدالقدوس في روايته التي تحمل نفس الاسم، والخيط الرفيع لا يفصل فقط بين الحب وغريزة التملك، بل يمتد فاصلاً بين الكثير من الصفات والقيم الجميلة (الحب) والصفات والقيم المرفوضة (امتلاك المحبوب) فيمتد بين الشجاعة والتهور، بين النقد والسباب، بين الطموح والأنانية، بين القناعة واليأس...إلخ.ولشفافية هذا الخط ورقّته فقد تبدو الصفتان في آن واحد كالصراحة والوقاحة فتقول الحكمة الصينية «إن الصراحة وقاحة جارحة والوقاحة صراحة مهذبة» فما يعتبره المتحدث صراحة يعتبره المتلقي والمتحدث إليه وقاحة والعكس بالعكس.ومن العجب في عالمنا السياسي العربي المليء بالغرائب أن هذا الخط الرفيع لا يمتد ليفصل بين الصفات بل يفصل بين الأفكار والأشخاص، فقد يسمح لك بمناقشة قضية ما أو التعبير عن فكرة بذاتها، ولكن لا يسمح لك إطلاقاً بالحديث عن صاحب هذه القضية أو المسؤول عنها، وللتوضيح فقد يسمح لك بالحديث عن رفض بقاء المسؤول في منصبه والحاكم في حكمه إلى أن ينفذ قضاء الله، ومحاولة توريث الأبناء مناصب الآباء... كل ذلك يمكن مناقشته والحديث عنه والاختلاف فيشأنه بين مؤيد ومعارض، وستجد من يزيدك من الشعر بيتاً ويذكرك بالحكمة الخالدة «لو دامت لغيرك ما وصلت إليك» كل ذلك جائز ومقبول أما أن تذكر مثلاً لرأيك وتقول إن الحاكم فلاناً يسعى إلى البقاء في منصبه وتعديل الدستور من أجل ذلك، أو تقول إن المسؤول فلاناً يعمل على توريث ابنه منصبه حماية لسمعته بعد رحيله فغير مسموح لك أبدا بذلك، فهنا يتحول الخيط الرفيع إلى جدار سميك من الرفض لا يسمح لك بالمرور خلاله أو القفز فوقه. هذا هو الخيط الرفيع بين المسموح وغير المسموح في الواقع السياسي العربي، والأعجب والأغرب أن ما كان ممنوعاً وبقوة يصبح جائزاً ومسموحاً به، بل قد يكون مطلوباً بعد رحيل الحاكم والمسؤول، فيمكنك حينئذ أن تتحدث كما تشاء وتكتب ما تريد.ولا أدري هل يمكن أن يكون هذا الخيط الرفيع سبباً من أسباب تدهور وضعنا السياسي وتخلفنا بين الأمم أم ان هناك أسباباً أخرى كثيرة؟ وهل سيسمح أصلاً بمرور هذا المقال من خلال الخيط الرفيع أم سيصطدم بالجدار السميك؟!