السيرة الذاتية لطائر الصحراء - 14
كيف صرت شاعراً
في عام 1971م جاءني الصديق محمد الحربي، الذي أصبح اليوم قاصا وكاتبا مشهوراً في دولة الإمارات العربية، وقال لي: يا سليمان ما دامت لك محاولات شعرية فإنني قد تعرفت على شاعر كبير فما رأيك أن تعرض محاولاتك عليه لتقييمها؟ آنذاك كدت أقفز من الفرح؛ لأنني سأتعرف على شاعر مشهور، له دواوينه و«يطلع بالتلفزيون» في برنامج البادية! لذلك توجهنا إليه على الفور وقدمني إليه الحربي، وقال له هذا الشاعر الذي قلت لك عنه. ثم رحّب بي الشاعر الكبير وكنت «أتأبط» دفتري المخملي الذي ضممت قصائدي إليه، وقال لي: هيا نسمع، ورحت (أسمِّع) كتلميذ في الصف الأول قد (صمّ) الدرس، ورحت أنشد في مسمعه قصيدة «التوجسات» الشهيرة، ولم أكد أنهي المقطع الأول منها حتى قال لي: كفى. كفى. هذا ليس شعرا يا بني! إنما الشعر هكذا، ثم أخرج لي ديوانا له، وراح يقرأ قصيدة عمودية، ثم قال لي: «الشعر طويل سلمه... إلخ». اذهب واقرأ للمتنبي والمعري وأبي تمام ثم اكتب الشعر. أحسست بإهانة كبرى، ثم قلت له باستحياء وانكسار: ولكنني أكتب الشعر الحرّ كما يكتبه (خالد سعود الزيد وخليفة الوقيان وعلي السبتي ومحمد الفايز، ثم انتفض وقال لي إنهم (يهذون) ليس هنالك شعر سوى الشعر الذي يعتمد على الصدر والعجز والقافية! أُصبت بصدمة كبيرة ونكست رأسي خجلا من نفسي، ثم تناول ديوانه وقدمه لي وقال لي اقرأ هذا الديوان جيدا لتعرف الشعر(!!). خرجت حزينا كسيرا كمن ضاقت به الدنيا، ثم أخذت أمزق ديواني المخملي الصغير في أقرب سلة للمهملات! وبالرغم من أن صديقي الحربي حاول منعي من ذلك فإنني قلت ليس بعد حكم هذا الشاعر الكبير حكم، وهنا غضب الحربي وقال بالصوت المرتفع: والله إن شعرك أحسن من شعره ولكنني لم أرد عليه. بعد تلك الصدمة المروعة من قبل (الشاعر الكبير) قررت أنني لا أصلح شاعرا (على غير قناعة كاملة!!) ولذلك اتجهت إلى التعلق بالكتابة الصحافية، وإذ بعد أعوام من تلك الحادثة -انتدبت إلى جريدة السياسة للتدريب على العمل الصحافي- وهناك أوكلوا زميلا مصريا آتيا من جريدة أخبار اليوم لتدريبي على التحقيقات الصحافية، وكان يصحبني في تلك الدورة الزميل سعود معارك الشمري، وكان مدربنا المصري رغم حرفته العالية فإنه كان ضحل الثقافة وكثير الادعاء ويخلط في تحقيقاته الحابل بالنابل. ويشطب لنا ما يشاء وغالبا ما يسقط أسماءنا من تحقيقاتنا لينسبها إليه، الأمر الذي أضجرني كثيرا، وكنت في وقت فراغي أجلس إلى الشاعر المبدع فيصل السعد الذي كان مسؤولا عن القسم الثقافي، وقد كان أصدر لتوه ديوانه الرائع «آلام الزمن المعتم» وأعقبه بديوان جديد آخر هو «أمل.. أغنية قبل الموت»، وكان يشدني إلى فيصل الحديث عن الثقافة والشعر، وأستفيد مما يصله بالبريد من مجلات أدبية أو مطبوعات جديدة. وذات يوم في ما كان (أبو سنين) هكذا لقبه آنذاك يجهز صفحة الثقافة، بقيت مساحة فارغة لم يكن لديه ما يغطيها من مواد فالتفت إلي وقال: هل تحفظ أية قصيدة لأي شاعر لنقفل بها الصفحة؟ فقلت له نعم، ثم تنحيت جانبا وأخذت أتذكر قصيدة لي أعدمتها في ديواني المخطوط الذي مزقته بناء على رأي «الشاعر الكبير» الذي قرر إعدامي كشاعر ورحت أكتب قصيدة «توجسات في الزمن الفاسد»، وحينما قدمتها إلى فيصل وقرأها أطل على وجهي بعينين متسائلتين من فوق نظارته السميكة وقال لي: لمن هذه القصيدة؟ فقلت له على الفور: إنها لي، فقال: لا! قل الحقيقة. فأقسمت له إنها لي، فطواها ووضعها في جيبه، ثم نهض إلى الأرشيف وأحضر صورة للوحة (الغرونيكا) لبيكاسو، وسد بها فراغ الصفحة وقال لي: بالنسبة إلى قصيدتك فإنني سأتركها للعدد القادم لأنها بحاجة إلى احتفاء خاص ومساحة أكبر.