هناك من يربط ظاهرة انتشار التنظيمات الإسلامية المسلحة المتمردة بتقديسنا وتمجيدنا لثقافة «المقاومة»، إذ باسم «النضال» عسكرنا نظمنا وثقافتنا ومناهجنا وإعلامنا وخطابنا الديني الثقافي وحتى مفاهمينا، ومنها مفهوم «الوطنية» التي حولناها من مفهوم تنموي حضاري بنائي إلى مفهوم سلبي هدام.بعد حصار طويل، ومواجهات دامية ورهيبة استمرت «106» أيام، تمكن الجيش اللبناني أخيراً من تحقيق نصره الساحق على تنظيم «فتح الإسلام» الذي تحصن في مخيم «نهر البارد» بعد أن سطا على بنك «البحر المتوسط» في بلد -أميون - ونصب كميناً غادراً للجيش، ومارس إرهاباً وقمعاً ضد الأهالي بهدف بث الذعر والفوضى وتحدى سلطة الدولة لتحقيق مخططه في سلخ محافطة شمال لبنان وتحويلها إلى «إمارة طرابلس الإسلامية» تكون دويلة «القاعدة» في بلاد الشام، وبديلة عن دولة «طالبان» الحلم الذي أجهض. استشهد في تلك المواجهات 163 جندياً وضابطاً والعديد من الضحايا المدنيين وقُتل وأسر 424 عنصراً من «فتح الاسلام» ودمرت أجزاء كبيرة من المخيم وتم تهجير نحو 30 ألفاً من سكانه ومن القرى المجاورة، لقد احتفل اللبنانيون بهذا الانتصار وهللوا لجيشهم ورفعوا الأعلام ورشوهم بالورود والأرز، وقد حق لهم ذلك فقد دفعوا ثمناً غالياً من أرواحهم.
في التحقيق مع المقبوض عليهم من «فتح الإسلام» اتضح أنهم من جنسيات عربية عديدة، معظمهم لبنانيون، يليهم الفلسطينيون ثم بعض السعوديين والسوريين والتونسيين والجزائريين ومعظمهم شباب في العشرينيات!! ما الذي أتى بهؤلاء إلى مخيم «نهر البارد»؟! ومن الذي زيَّن لهم هذا الموت «العبثي»؟! ولماذا فضَّلوا الموت على الحياة؟! وما الأيديولوجية الدينية التي هيمنت على عقولهم ونفوسهم فاعتقدوا أنهم في حالة جهاد ومقاومة؟! وبأي عقل ودين يكون التدمير والتفجير وإرعاب الآمنين مقاومة وجهاداً؟! مثل هذه التساؤلات يطرحها الإنسان العربي البسيط مندهشاً وحائراً ومستنكراً تدهور الأوضاع العربية التي أفرزت مثل هذه الظواهر السلبية! من «فتح الإسلام»؟ ولماذا تحصنوا بـ»نهر البارد»؟
«فتح الإسلام»، فصيل ديني مسلح انشق عن «فتح الانتفاضة»، والذي بدوره منشق عن «حركة فتح» الأم. الانشقاق وتناسله، قانون غلاب. حكَمَ مجمل النضال الفلسطيني وألقى بظلاله السلبية على الحركات والأحزاب العربية كافة منذ الخمسينيات، أما السبب في تحصّنهم في مخيم «نهر البارد» فلأن المخيمات الفلسطينية في لبنان وعددها 16 مخيماً يقطنها أكثر من 400 ألف فلسطيني، خارج سيطرة الدولة اللبنانية بموجب اتفاق 1969 الذي منحها أمناً خاصاً بها، لا يجوز لرجال الأمن دخولها، مما حولها إلى ملاذ آمن للخارجين على القانون وهيأها ساحة مفضلة للتنظيمات الأصولية التي وجدت فيها مناخاً خصباً لجذب الأنصار بحجة «المقاومة» و«الجهاد» منذ التسعينيات... ومخيم «نهر البارد» بالذات فيه ملاجئ محصنة تحت الأرض من عدة طبقات ولهذا طال أمد المواجهة فضلا عن شراسة المقاومة والخبرة القتالية السابقة لعناصر «فتح الإسلام» في العراق، إضافة إلى التمترس بالنساء والأطفال، وفي ذلك ما يجيب عن تساؤل د.البغدادي وغيره: هل هذه دولة أم مخيم؟! كتب يقول: «في كل يوم يقتل جندي لبناني ويتساءل العاقل: لو كانت عصابة «فتح الإسلام» الإرهابية دولة، ما الحال التي ستكون عليها الدولة اللبنانية؟!»، ولكن التساؤل الأهم الذي يحتاج إلى دراسة تاريخية سوسيولوجية للعالم الإسلامي لنفهم أسباب ازدهار الحركات المتطرفة خاصة تلك التي تتخذ ميليشيات مسلحة، تنازع الدولة سلطتها وتريد الاستحواذ على دويلة أو إمارة خاصة بها، بزعم إقامة الشريعة حسب مفهومها!! فأينما وجهت بصرك على امتداد الساحة العربية خاصة، والإسلامية عامة، رأيت جماعات أصولية منظمة تنازع حكوماتها وتشهر السلاح في وجهها - ليس السلاح التقليدي القديم، السيف، إنما الصورايخ والمدفعية الثقيلة، بل عند بعضها من الأسلحة ما لا يوجد عند بعض الجيوش- مثل «الجماعة السلفية» في الجزائر التي تقاتل الدولة منذ 16 عاماً، وجماعة «الحوثي» في اليمن، و«طالبان» في أفغانستان، والجماعات المسلحة في باكستان ومنها «طلاب المسجد الأحمر»، و»حماس» التي دبرت انقلاباً دموياً واستقلت بغزة، و«حزب الله» الذي كَوَّن دولة «المربعات الأمنية» المستقلة بعلمها وسلاحها واعلامها وفضائيتها ومحاكمها وخدماتها، وأخيرا شبكة الاتصالات التلفونية، و«المحاكم» في الصومال، والميليشيات المسلحة في العراق؛ بدءاً بجيش المهدي، مروراً بمسلحي السنة، وانتهاء بالعصابات الإرهابية التي تمارس القتل والتفجير والتخريب بلا رحمة ومن دون تمييز... جميع تلك التنظيمات الدينية المسلحة تجمعها قواسم مشتركة، منها: أن ولاءاتها ليست لأوطانها ومجتمعاتها، بل هي عابرة لحدود الوطن إلى أيديولوجية دينية حاكمة، ومنها أنها: تتوسل بـ «الجهاد» و«المقاومة» ذريعة لقدسية «سلاحها» وممانعتها لتجريدها منه، ومنها أنها تَعُد من سقط منها في نزاعها مع الدولة، شهيداً بالرغم من تسببه في مقتل المئات من الأبرياء - ولا عجب أن يصرح شقيق العبسي، وهو طبيب، أن شقيقه «شهيد» نال ما يصبو إليه!- جميع تلك الميليشيات المسلحة بأسها شديد على مواطنيها وتخوض حروباً أهلية مُقَنَّعة باسم «المقاومة»، وهي دائما تصطنع عدواً خارجياً وتتهم خصومها بالعمالة والخيانة لشحن الجماهير واستمالتها إلى صفها، وجميعها تشكل كابوساً أسود، إذا وصلت إلى السلطة، بالنسبة إلى مستقبل الثقافة والفنون والآداب والحقوق والحريات المدنية، وجميعها فاشلة بامتياز في البرامج التنموية والإنتاجية، وكلها تدعي أن فهمها للإسلام هو الصحيح، لكن الأخطر أن هذه التنظيمات تتسبب بتصرفاتها السيئة ومغامراتها الكارثية في إتاحة الفرصة المناسبة للتدخل الخارجي.
السؤال الآن: ما العوامل التي أسهمت في نمو وانتشار تلك التنظيمات المسلحة والمتمردة على حكوماتها ودولها؟! بداية يجب أن نوضح أن هذه الظاهرة ليست حديثة فقد لازمت نشأة الخلافة الأموية، بل قبلها إبان عهد الخلافة الراشدة متمثلة في «الخوارج» والحركات المتمردة كافة على امتداد التاريخ الإسلامي والتي شكلت دويلات إسلامية متحاربة، وربما ضعفت خلال الفترة الاستعمارية وعهود الوصاية لتبدأ الظهور ثم تتعاظم شيئاً فشيئاً بداية بعهود الاستقلال الوطني ليستفحل خطرها في السنوات الأخيرة.
هناك من يفسر الظاهرة أن «الدولة الوطنية» الحديثة، ومنذ الاستقلال لم تنجح حتى الآن في ترسيخ جذورها بالرغم من مظاهر ومؤسسات ودساتير الدولة الحديثة، إذ مازالت شرعيتها هشة أو منتقصة ولم تفلح في إعلاء قيمة «الانتماء الوطني» وتكريسه في التربة المجتمعية، باعتبارها الولاء الأسمى فوق كل الولاءات الأولية الأخرى؛ كالطائفية والقبلية والمذهبية والأيديولوجية الدينية، ولذلك يقولون إننا مازلنا في مرحلة المجتمعات شبه السياسية، ولم نتحول إلى دول حقيقية لأن الدولة ليست مجرد نشيد وعلم ومؤسسات حديثة، بل هي دولة القانون والمساواة والحرية والحقوق المدنية واستقلال القضاء والإعلام الحر.
وهذا الضعف أدى إلى زيادة تعصب المرء لقبيلته أو طائفته أو جماعته الدينية والاحتماء بها باعتبارها الملاذ الآمن من قسوة السلطة وأيضاً للحصول على المغانم والمصالح والنفوذ والمجد الشخصي، وقد انتعشت القيم القبلية بشكل أكبر بعد حرب الخليج الثانية وغزو الكويت، وكما يقول عبدالله بن بجاد «فقد كان الحدث ضخماً بكل المقاييس، هزته الاجتماعية تركزت في إضعاف الولاء للدولة الحديثة، وإضعاف قناعة الناس بقدرة الدولة على حمايتهم من العدوان وإشعارهم بالأمان التام، وفي هذا السياق فقد هربت أسر كويتية كثيرة والتجأت إلى أقربائها وامتداداتها القبلية في السعودية والخليج فانتعش الشعور القبلي في صدور الناس من جديد».
وهناك من يربط الظاهرة بتقديسنا وتمجيدنا لثقافة «المقاومة»، إذ باسم «النضال» عسكرنا نظمنا وثقافتنا ومناهجنا وإعلامنا وخطابنا الديني الثقافي وحتى مفاهمينا، ومنها مفهوم «الوطنية» التي حولناها من مفهوم تنموي حضاري بنائي إلى مفهوم سلبي هدام، فأنت «وطني» بمقدار عدائك لإسرائيل وكراهيتك للغرب وشتمك لأميركا. وباسم «المقاومة»، شاعت ثقافة «التخوين» و«العمالة» و«التكفير» وغُفرت خطايا وآثام واستبداد وهزائم المستبد الوطني. وأضعنا «التنمية» و«الثروة» و«الإنسان»، وبعد نصف قرن من الفشل في «النضال» انقلب سلاح «المقاومة» على مجتمعاتها وحكوماتها، ولكن هذه المرة باسم «الجهاد» الديني بعد أن كان نضالاً وطنياً... تريد تلك الجماعات «السلطة» بعد أن فشلت في تحرير الأرض بحجة تطبيق الشريعة واستعادة «الخلافة».
القوميون باسم «النضال أهدروا الثروة» وغيَّبوا «الإنسان»... والأصوليون باسم «الجهاد» يريدون تضييع «الأوطان»!!
* كاتب قطري