إذا كانت الأنباء التي تفيد بأن ثمة توافقاً استراتيجياً مهماً قد حصل بين القيادتين الروسية والإيرانية في الآونة الأخيرة يقضي بأن تبذل طهران كل ما تستطيعه من تهدئة مع الخصم، مقابل تعهد روسي بمنع حصول إجماع دولي ضدها صحيحة، فإن ذلك يعني أن واشنطن قد صرفت النظر ليس عن الخيار العسكري فحسب، بل عن المواجهة مع طهران بشكل نهائي.مرة أخرى نعود إلى الحديث عن تقرير الاستخبارات الأميركي الأخير في ظل تطورين اثنين حصلا خلال الأيام القليلة الماضية: الأول، وهو تأجيل المباحثات بين واشنطن وطهران حول الأمن في العراق، والتي كانت مقررة في بغداد، في وقت عاد أحمدي نجاد ليؤكد سروره به، وليصفه بأنه استسلام! والثاني، وهو قرار موسكو بالبدء بتسليم طهران الوقود النووي اللازم لتشغيل مفاعل بوشهر الذري قبل البدء بتشغيله بعدة أشهر، في وقت صرحت فيه القيادة الروسية بأن هذه الخطوة تشجع طهران على التخلي عن إصرارها على التخصيب المحلي!
رغم كل ما قيل عن تقرير الاستخبارات المذكور فإن القدر المتيقن من نتائجه وتداعياته على ما يبدو هو تخفيض مستوى الصراع والتوتر بين العاصمتين الأميركية والإيرانية، وبالتالي انعكاس ذلك على تهدئة سائر الصراعات والتوترات في الإقليم، وتأتي خطوة تأخير مباحثات بغداد على ما يبدو من الثامن عشر من الشهر الجاري كما كانت ترغب السلطات العراقية، إلى بداية السنة الميلادية الجديدة لغرض مزيد من الإعداد والتعمق من الجانب الإيراني على الأقل، والذي يشعر بالزهو والانتصار على الخصم اللدود الذي ظل يتهمه بما هو ليس فيه.
السؤال الذي يطرح نفسه الآن هو: هل ينمّ التقرير المذكور عن نية أميركية في الانكفاء عن الملف الإيراني، وبالتالي عن سائر ملفات الإقليم الذي نعيش فيه نحن -العرب والمسلمين- في إطار التوجه إلى تركيز الانتباه إلى الصراعات العالمية الكبرى التي تبرز مع التوثب الروسي للعودة بقوة إلى المسرح الدولي، وأيضاً بسبب الانكفاء الموقت نحو الداخل الأميركي بسبب اقتراب موعد انطلاق السباق الانتخابي للرئاسة الأميركية، أم هي مجرد استراحة بالنسبة للمحارب الأميركي الذي لن يغمض له جفن قبل أن يوقف «المارق» الإيراني الأخطر على الأمن الدولي كما كان يصفه دوما؟!
إذا كانت صحيحة بالفعل تلك الأنباء التي تسربت من داخل أروقة مطبخ صناعة القرار الإيراني، التي تفيد بأن ثمة توافقاً استراتيجياً مهماً قد حصل بين القيادتين الروسية والإيرانية في الآونة الأخيرة يقضي في ما يقضي بأن تبذل طهران كل ما تستطيعه من تهدئة مع المحيط القريب ومع الخصم اللدود، مقابل تعهد روسي بمنع حصول إجماع دولي ضدها، وهو ما أشار إليه أحمدي نجاد أخيراً أيضاً بالتصريح بأنه لا يتوقع صدور عقوبات جديدة ضد بلاده، فإن ذلك يعني أن واشنطن قد صرفت النظر ليس عن الخيار العسكري فحسب، بل عن المواجهة مع طهران بشكل نهائي وأنها بدأت تعد العدة لـ«تكويعة» كبرى مع الدولة الإقليمية الأعظم في المنطقة عنوانها التحضير للتعايش مع «إيران الدولة النووية»!
ذلك أن من بين تلك الأنباء المتسربة ما يفيد بأن موسكو تفكر جدياً في التحضير الجدي لإعلان تحالف رباعي اقتصادي يُعنى بشؤون الغاز هو أشبه بأوبك الغاز يضم كلاً من روسيا وإيران وقطر وفنزويلا كنواة أولية وأنها حصلت على تعهد إيراني بهذا الخصوص لتسليمها مهمة استثمار مرحلتين من حقل «بارس الجنوبي» الضخم للغاز قيمته مليارات الدولارات تنفذه شركة غاز بروم الروسية، يقضي بإسالة الغاز وبيعه مباشرة من البواخر في المياه الخليجية الدافئة!
وإن هذا الإنجاز الروسي إذا ما تحقق بالفعل سيعتبر الاختراق الأول من نوعه للروس في منطقة النفوذ الغربية تقليديا، والتي ظل يحلم بها قادة موسكو منذ عهد القياصرة! وإذا ما أضفنا إليها الأنباء التي تتردد حول عودة الروس إلى مياه البحر المتوسط الدافئة أيضاً من جديد عبر البوابة السورية، وما يحكى حول قواعد عسكرية هناك في طرطوس أو اللاذقية، فإننا نستطيع أن نفهم السبب الحقيقي وراء صدور مثل هذا التقرير الاستخباراتي الأميركي ولماذا وصفه البعض بالانتكاسة الاستراتيجية!
وإن تدفق الوقود النووي الروسي نحو طهران وعدم استعجال الأخيرة في الذهاب إلى مباحثات بغداد لا يمكن قراءته إلا في هذا السياق.
* الأمين العام لمنتدى الحوار العربي - الإيراني