لو كان أستاذنا الجميل خليل صابات، رحمة الله عليه، حياً إلى يومنا هذا، لربما أصدر طبعة جديدة من كتابه القيّم «الصحافة: رسالة، استعداد، فن، علم»، مزيدة ومنقحة، مضيفاً إلى مرادفات الصحافة، كما يراها، كلمة خامسة: صناعة، فضلا عن احتمال اكتفائه بالمدلول الجامع والبديع في إيجازه وأمانته: «الصحافة... صناعة».

Ad

والشاهد أن عقوداً عديدة مرت، والأكاديميون متواطئون مع الإعلاميين المحترفين، إذ روّج الجميع، في سعادة وفخار شديدين، تلك المترادفات ذات البريق والوهج عن المهنة الجميلة، فنحن- يقول الصحافيون- «نعمل في مهنة رسالية، محامون عن المجتمع والناس، ننسك مسالك أصحاب الدعوات وأولي الحكمة والوعاظ، ونخوض معارك الوطن... أي وطن، ونحافظ على ثوابته... نحن سدنة القيم، وحامي الضعيف، وكاشف الفساد، ومطوع كل ظالم، ومروض كل مستبد... نحن حملة التنوير، ودعاة الفكر، وحراس المعرفة... نحن أصحاب رسالة».

وعلى اللحن ذاته صدرت تنويعات مختلفة، من مقامات عزف مفرطة في الغنائية والإيقاع، حتى صدق الناس أن هذه المهنة تقع في باب الأنشطة الهادفة إلى أي شيء ما عدا الربح، وحتى قيل عن نقابة الصحافيين في أكثر من بلد عربي «نقابة الرأي». والمعنى أن من يمارس تلك المهنة يعطي آراء، لا حقائق أو معلومات تم التثبت، بقدر الإمكان، من صحتها وحيادها عند العرض.

وإذ انكشفت وسائل الإعلام التابعة للحكومات معظمها، وباتت تخسر خسائر فادحة ومريرة، فذلك لأن «الناس لا تقرأ»، أو أن «الإقبال على الترفيه والإعلام التافه أكبر منه على الإعلام الهادف»، أو لأن «ثمة أدواراً اجتماعية وسياسية ووطنية خطيرة تلعبها تلك الوسائل»، وليس لأنها أُسست على اعتبارات تُناقض الجودة والجدوى في آن، أو لأنها تهدف إلى حشد أكبر عدد من ألحان «الطبل والزمر وحفلات التضليل العام» لحكومة أو حاكم أو نظام أو دولة أياً كان المتحكم في التمويل والساكت عن هدر مقدرات البلاد والعباد.

وفي الجهة الأخرى، تقف وسائل الإعلام الخاصة، بتشف وشماتة واضحين، إذ تقول «نربح ويرانا الناس»، لكن بعضها في غمرة النجاحات الصوتية داس الكثير من المعاني، فسحب الجمهور من البيوت الزجاجية المعتمة التي صنعها الإعلام الحكومي إلى فضاء فوضوي أكثر منه حر، ومتبجح أكثر منه جريء ومتجاوز أكثر منه كاشف. وفي الحالتين كان الجمهور في حيرة قليلاً، وفي حسرة كثيراً، والجميع بلا اتجاه.

الكلمة السحرية تبرز في أوقات العتمة دائماً، وحين يحتدم النقاش، ويكاد اليأس يدب في نفوس المؤتمرين أو المشاهدين أو المستمعين أو المتناظرين، الكلمة السحرية تنزل إلى المسرح فوراً... برداً وسلاماً على الجميع، وحلاً ملهماً يداوي كل الأمراض مهما استعصت، ويفكك المعضلات مهما استحكمت، ويرضي جميع الأطراف.

ميثاق الشرف... هكذا يقول الأكاديمي، والنقابي، ورجل الشارع، وست البيت، ومعهم تقول الحكومة، وضابط الأمن، ورجل الأعمال، حتى الفاسدون والمجرمون. الصحافي أيضاً، سواء كان رئيس تحرير من ذوي المخصصات الضخمة، أو صاحب الوسيلة أو شريكاً بحصة فيها، أو كان محرراً «غلباناً» على باب الله، وسواء كان في وسيلة تتبع الحكومة، يصعد العاملون فيها الدرجات المحسوبة على سلم الأقدمية والولاء، أو كان في وسيلة خاصة تدار بمعيار «لماذا تدفع أكثر إذا كان يمكنك أن تدفع أقل»، أو حتى كان يعمل في «دكان». وسواء كان من هؤلاء الذين يدافعون عن «حرية الصحافة» أو يدافعون عن «أعراض الناس»، أو هؤلاء الذين يحمون «حق المجتمع» في المعرفة وكشف الفساد، أو أولئك الذين يزودون عن «حق الإنسان الفرد وخصوصيته وحرماته». الجميع اختلفوا على كل شيء، لكنهم اتفقوا على شيئين: الا يتفقوا، وتفعيل ميثاق الشرف.

ما هذا الحل السحري (ميثاق الشرف)، الذي يحل تلك المشكلات جميعها، ويحظى بتقدير الفرقاء والخصوم والأعدء في ميادين الاختلاف. ما هذا «الميثاق الشرف» الدواء الذي يعالج جميع الأمراض في لحظة واحدة، جملة واحدة، كلمة واحدة، نقولها جميعاً بعلو الصوت، بثقة واعتزاز، باقتدار الواثق في امتلاك خريطة الطريق، إلى حيث يجب أن نصل جميعاً... إعلام حر هادف، وفض للاشتباك بين الأضداد، وحل ناجع لتضارب المصالح.

الواقع أن ميثاق الشرف ليس سوى شماعة نعلق عليها رغبتنا في ترك الأوضاع على ما هي عليه، وعدم الوصول إلى أي حل حقيقي، وشغل المسرح بحركات بهلوانية تعتمد على قواعد مستمدة من تكنيكات كوميديا الفارس: التكرار وقلب المواقف.

والحديث المتكرر عنه يأتي في إطار مشابه لما تقدم عليه دول عربية عدة حين تطلق خططاً ووعوداً شديدة الطموح من نوع «سيبلغ حجم صادراتنا بعد خمس سنوات سبعين ملياراً»، أو سنصل إلى استقبال «عشرين مليون سائح بعد سبعة أعوام»، والجميع يعرف أنها محض أحلام، فالصادرات ستزيد عندما تعتمد معايير الجودة في كل مصنع من المصانع، والسياح سيتكاثرون عندما تزدهر جميع الخدمات في البلد.

فلا يمكن أن نتصور أن تفعيل عبارة مثل «يراعي الصحافي الحياد عند تصديه لتغطية موضوع معين»، سيحدث بمجرد أن نعقد اجتماعاً ندشن فيه ميثاقنا، ونحض الزملاء على تبنيه والعمل به، ولا يمكن أيضاً أن نتصور أن أوضاع الكثير من المؤسسات الإعلامية العربية الراهنة جاهزة لتفهم مدونات قيم ومعايير مهنية قياسية، فضلاً عن تبنيها.

إن أي عمل حقيقي نحو تفعيل مواثيق الشرف، إذا أريد لها تفعيلاً، لا يبدأ بمحافل تحض على تبنيها أو تعدد محاسنها، فذلك يجعل منها مجرد شماعة وبرهان على المراوغة أو الاستسهال أو الخطل، فإذا رغبنا في الإصلاح الذي يقود تلك الصناعة (الإعلام) إلى ازدهار حقيقي، فلنبدأ من المؤسسة الإعلامية، التي يجب أن تُبنى من عناصر ومعايير وقيم، يمكنها أن تدرك اعتبارات القيمة فضلاً عن أن تعمل بها.

* كاتب مصري