الفساد في الأرض ليس مجرد أثر في الدنيا بل له تبعاته في الآخرة مما يخيف الناس منه ويبعدهم عنه، وهو من كسب الناس وليس من فعل الله، والإنسان مسؤول في العالم عن الإصلاح والإفساد على حد سواء، وجزاء الفساد في الأرض العذاب في الآخرة.الفساد يقابل الإصلاح، وغيابه إصلاح، والعكس صحيح، وهما مثل التقدم والتأخر، فالأول إصلاح والثاني فساد. والمقابل اللغوى للإصلاح هو الإفساد، الفعل الرباعي. ومع ذلك فالأغلب في الإفساد هو الفعل الثلاثي «فسد» أكثر من الفعل الرباعي «أفسد»، في حين أنه في الإصلاح الأغلب هو الفعل الرباعي «أصلح» أكثر من الفعل الثلاثي «صلح».
وإذا كانت النبوة إصلاحاً فإن التكذيب بها إفساد، ومقياس التصديق بالوحي أو التكذيب به هو مقياس الإصلاح أو الإفساد في الأرض، فالوحي ليس معرفةً فقط بل سلوكاً، وليس نظراً فقط بل عملاً، وليس إيماناً أو اعتقاداً فقط بل تغييراً وتطويراً إلى الأفضل.
وقد ورد لفظ «فساد» ومشتقاته نحو خمسين مرة أقل من لفظ «صلح»، الثلث تقريباً مما يدل على أهمية الإصلاح وأنه من طبائع الأمور أكثر من الإفساد، ومحاربة الفساد مجرد مقدمة لتحقيق الإصلاح، فالسلب مقدم على الإيجاب، والنفي سابق للإثبات.
وقد ورد اللفظ اسماً «نحو اثنتين وثلاثين مرة»، ويعني في معظمها الفساد في الأرض «وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ»، والفساد لا يأتي بعد الإصلاح لأنه ضد طبائع الأشياء بل الإصلاح هوالذي يأتي بعد الفساد «وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا»، وإفساد الأرض بإفساد الحرث والنسل أي الثروتان الزراعية والحيوانية «لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ». والإفساد هو الخراب والقحط والمجاعة والموت كما يحدث في كثير من بلاد المسلمين في السودان والصومال وتشاد ومالي بالعجز عن السيطرة على الطبيعة والنزاعات الداخلية، وكما يحدث في فلسطين بتجريف الأراضي ونزع الأشجار. والفساد هو القضاء على مقومات الحياة العضوية في النبات والحيوان.
والفساد في البر والبحر «ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ»، فالبحر مثل البر، تدفن فيه النفايات، ويصيبه التلوث، ويحدث في القرية أي في المجتمع «إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا» وهو فساد النظام الاجتماعي والسياسي، ويظهر الفساد في البلاد أي في الأوطان «الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ، فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ»، وينخر في الدول ويقضي عليها.
والعلو والاستكبار في الأرض مظهر من مظاهر الفساد «نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُريدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا»، وهو الفساد السياسي بمعنى القهر والتسلط والطغيان، ويقع الفساد في السماء والأرض باتباع الأهواء «وَلَو اتَّبَعَ الْحَقُّ أهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ»، فالفساد يصل من الأرض إلى السماء إذا تابع الإنسان أهواءه وترك الحق، فالسماء رمز القيم والمبادئ، كما أن الأرض رمز الوقائع والأوضاع. هو الفساد الشامل في كل طبقات المجتمع، الخاصة والعامة، النخبة والجماهير، فساد الأغنياء لمزيد من الإثراء، وفساد الفقراء من أجل القدرة على التعايش وحفظ البقاء، ومقاومة الفساد في الأرض تطلب «الدفع» أي الصراع البشري والجهد والكد والسعي والمقاومة «وَلَوْلا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْض لَفَسَدَتِ الأَرْضُ»، والفساد لا يمكن اتباعه والرضوخ له بل مقاومته والتصدي له وكشفه وفضحه أمام الرأي العام «وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ».
والتولي عن النبوة فساد في الأرض، فالوحي هو طريق الإصلاح «فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ»، فالنبوة إصلاح في الأرض وتوجيه للطبيعة نحو الكمال، وتقدم التاريخ، والفساد عصيان «آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ»، وإنكار الحق وتكذيب النبوة، وهو فتنة في الأرض «إلا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْض وَفَسَادٌ كَبِيرٌ»، كما أن الفتنة فساد في الأرض لأن الصلاح لا يأتي إلا بالمصالحة والتعاون، وإذا أفسد الإنسان في الأرض أحيانا فلكي يتعلم الإصلاح ويحققه دائماً.
وإبخاس الناس أشياءهم مظهر من مظاهر الفساد «وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أشْيَاءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ»، وعدم تقدير جهد العاملين حتى تصاب أنفسهم بالإحباط وذلك مثل إعطاء العامل أقل مما يستحق، وإعطاء الفلاح أقل من جهده، والإفساد في الأرض قطع ما أمر الله به أن يوصل «وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأرْضِ»، في حين أن الإصلاح وصلٌ واتصال، وربطٌ ورباط، كما أن الفساد هو ضرب الناس بعضهم ببعض، وإيقاع الشقاق بين الأحزاب والقوى السياسية حتى يقوى الحاكم إذا ما تفرق الخصوم.
وإيقاف النسل، ذبح الذكور واستحياء الإناث، فساد في الأرض «يُذَبِّحُ أبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيي نِسَاءَهُمْ إنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ»، فالحياة تكاثر ونماء وخصوبة، والإفساد في بقعة من الأرض هو إفساد في الأرض جميعاً كما أن قتل نفس واحدة هو قتل للناس جميعاً، والفساد يستشري في الأرض إذا بدأ ولا يتوقف، بل هو عدوى سريعة الانتشار، وتنهار الأمم بالإفساد في الأرض وتنهض بالإصلاح فيها «فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُون مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ»، والفساد هدم والإصلاح بناء، والفساد هزيمة للإرادة، والإصلاح نصر لها، والنصر في النهاية للإصلاح والهزيمة للإفساد «قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ».
«وَاللهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ»، والوحي هو كلمة الله وتحقيقها في الأرض بالجهد الإنساني، وإذا كانت صفات الله وأسماؤه نموذجاً للسلوك الإنساني والله لا يحب الفساد فإن الإنسان أيضاً لا يحب الفساد.
والتوحيد لمنع الفساد في الأرض «لَوْ كَانَ فِيهمَا آلِهَةٌ إِلا اللهُ لَفَسَدَتَا». فوحدانية الله تنعكس في وحدانية الطبيعة والمجتمع والإنسانية، ويحكمها مبدأ واحد يتساوى أمامه الجميع من دون ازدواجية المعايير كما يحدث في القرارات الدولية ومواقف الدول الكبرى، والفساد في الأرض من كسب الناس وليس من فعل الله «ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْر بِمَا كَسَبَتْ أيْدِي النَّاسِ». ولا يمكن الاعتذار بالقدر المسبق أو بالعلم الإلهى لارتكاب الفساد، فالإنسان مسؤول في العالم عن الإصلاح والإفساد على حد سواء. وأخيراً جزاء الفساد في الأرض العذاب في الآخرة «زدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ». فالفساد في الأرض ليس مجرد أثر في الدنيا بل له تبعاته في الآخرة مما يخيف الناس من الفساد ويبعدهم عنه.
اليسار الإسلامي رؤية في تغيير الواقع أكثر منه تصورات نظرية، ومن وسائل تغيير الواقع التحول من الإفساد إلى الإصلاح، وبالتالي يلتقي مع كل الاتجاهات الاجتماعية التي تشارك في نفس الهدف، وهذا هو معنى شمول الإسلام وعالميته أي قدرته على احتواء باقي العقائد والقيم في رؤية واحدة لتحقيق هدف واحد، وهو في النهاية أحد تجليات التوحيد.
* كاتب مصري